قبل نحو عام، سقط أحد العمّال من مبنى قيد الإنشاء في «المشرفيّة». مرّت حادثة السقوط بهدوء. لم يعلم بها سوى بضع عمّال ومهندس المشروع السكني، وشاهد من «جهاز تفتيش العمل والوقاية والسلامة» في وزارة العمل، صودف وجوده عند نافذة مقابل الورشة. لكن، لسوء حظ الضحية، فقد التزم المفتّش، وهو الوحيد في «الجهاز» التابع للوزارة، الصمت
راجانا حمية
لم يجرؤ المفتش الوحيد في الدولة اللبنانية على التصرف. فقد "تعلّم" من التقرير الذي أعدّه ضدّ مخالفات إحدى الشركات الكبرى "أن لا يعيد الكرّة". لم يكن موت عامل في ورشة، مفاجئاً في مسلسل السلامة العامّة لورش البناء الذي تظهر أخباره من وقت لآخر في "متفرقات" الجرائد. وإن كان العمال الضحايا يمرون "متفرقات" في الصحف، فالمارة بجانب تلك الورش، وهم المعنيون الآخرون بالحرص على قوانين سلامة الورش، قد يصادفون "حظ" إحداث ضجة او فضيحة في الرأي العام. ولعلّ أكثر الحوادث حضورا في الذهن، مقتل الطالبة ريم صالحة التي قضت، قبل أربع سنوات، إثر سقوط لوحٍ خشبي من سقالة إحدى ورش البناء على رأسها أثناء مرورها على الطريق المؤدّية إلى كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة في "الأونيسكو" حيث كانت تتابع دروسها.
هكذا تنتهي كلّ الحوادث من دون صخب. فيُطوى ملف الموت بتعزية عائلة الضحيّة، والتعويض عليها، وكأنّ شيئاً لم يكن. فيما أسباب هذا الموت متشعّبة وضائعة بين لامبالاة غالبيّة أصحاب ورش البناء بسلامة عمّالهم والعابرين على الطرقات القريبة من مكان العمل وسلامة البناء أيضاً، وبين "مرسوم تنظيم الحماية والسلامة في البناء" غير المطبّق والمحفوظ في أدراج جهاز التفتيش في وزارة العمل منذ صدوره وبين العمّال أنفسهم الباحثين عن لقمة العيش من دون أدنى اكتراثٍ لإجراءات الوقاية.
إلّا أنّ ذلك لا يمنع رئيس نقابة عمال البناء كاسترو عبدالله من استثناء العمّال من المسؤولية، فالمسؤول الأوّل عن تزويدهم بما يجب عليهم القيام به لحماية نفسهم وغيرهم هو المهندس المشرف على العمل، وفقاً لما تنصّ عليه المادّة 38 من مرسوم السلامة العامة. ولكن، هل هذا ما يحصل في ورش البناء؟
"ورش البناء قنابل موقوتة". هكذا يصفها عبدالله. ويضيف"صعب انتهاء ورشة من دون حوادث أو إصابات.وربّما هذا ما يحدث، حتّى في أكثر الورش التزاماً بإجراءات الوقاية". ففي إحدى أضخم الورش وسط مدينة بيروت، قد تجد بعض الخروق لتلك التعليمات، التي تصادفك لحظة الدخول. عامل يقف على إحدى سقالات البناء منتعلاً "شحّاطة" قد تعلق بأي شيء ما يجعله يتعثر ويسقط، وآخر يعتمر قبّعة للشمس وليست مخصّصة لصدّ "الأشياء الساقطة". وعند السؤال عن الإجراءات، يسكت الجميع بانتظار مسؤول السلامة العامّة، الذي لم يصرّح سوى باسمه الأوّل "المعلّم علي". يفاجئك المعلّم علي بغضبه، ليس بسبب السؤال، وإنّما لتعدّيك على أرض "الدولة"، كما يقول. علماً أنّ الأرض هي لشركة "سوليدير". تحتاج للدخول إلى هنا إلى إذنٍ مسبق. لا يزال المسؤول غاضباً، إنّما كان عليه تبرير العاملين المخالفين. سرعان ما يأخذك إلى مكتبه عند أطراف الورشة ليرشدك إلى ورقة الإجراءات الخاصّة بسلامة العمّال. لكن، يبدو أنّ شدّة حرصه على سلامة هؤلاء العمّال دفعته إلى خرق المرسوم بنفسه، فبدلاً من وضع الورقة عند مدخل الورشة ليتسنّى للعمّال الإطّلاع عليها كما ينص القانون، الصقها على حائط مكتبه!
لكن مخالفات هذه الشركة، كانت الأخفّ بين غيرها من الورش. فعلى بعد شارعين منها، ترتفع ورشة بناءٍ وسط المباني السكنيّة المأهولة. تعترض معدّاتها الطريق العام، معيقة حركة السير الطبيعيّة. فيما "شبك" الحماية الأخضر الذي يفترض أن يغطي جميع جوانبها لحماية العابرين، كان أشبه بزينة مشلوحة على شجرة الميلاد.
الورشة خالية إلا من عاملٍ واحد يستريح في فيء السقالة. لا يعرف العامل عبدالله السعدي، وهو حلبي، شيئاً عن إجراءات الوقاية، باستثناء "الحذاء الخاص المدبب من الامام" الذي غالباً ما يدفعون هم ثمنه. وفي أبسط الأحوال يبلغ ثمن هذا الحذاء 100$، يحتاج العامل لشرائه 9 أيّام من العمل المتواصل، خصوصاً إن كانت يوميته 12$ فقط. لا يجد السعدي مفرّاً من شرائه، فعمله كلّه يعتمد على هذا الحذاء، وهو كل ما يحتاجه للصعود إلى السقالة. ويستغرب السعدي سبب السؤال عن الإجراءات الإضافية كحزام الأمان والملابس العازلة، ويقول "لشو، يكفي الحذاء والإنتباه، وكلّه على الله هو الحامي".
لكن يبدو ان العمّال، وغالبيّتهم من سوريا، يتبنّون شعار "الله الحامي". ففي إحدى الورش في الضاحية ، يختصر العامل سليمان الحسن الإجراءات بجملةٍ واحدة "سمّي بسم الله وقول يا رب وطلاع على السقالة وبس تموت بتكون نزلت ورقتك". كان الحسن برفقة شابين آخرين: سلّوم محمّد ومحمّد الحجفي، فيما الصديق الثالث يعتلي "برميلاً" على حافّة شرفة الطابق الثالث. يبتسم الثلاثة لحظة السؤال عن السقالة، فيجيب سليمان "بطلنا بحاجتها، بس هونيك عم يورّق الحيط، ومنّو كبير لنرجع نركب السقالة"! وعند السؤال عن مسؤول السلامة العامّة، يستغرب الشباب! "يمكن سوليدير وحدها عندها هالمنصب". هذا ما يقوله رئيس نقابة عماّل البناء كاسترو عبدالله. فقد اسقطت "وظيفة مسؤول السلامة العامّة من مرسوم الحماية خلال جلسات تعديله في مجلس الوزراء" العام 2004 حسب ما يقول!
وفي غياب هذا المسؤول، لا يبدو أنّ سلامة العمّال "مضمونة". فالبلديات من جهة ووزارة الأشغال العامّة من جهة اخرى حصرت اختصاصها بمراقبة سلامة الأبنية وإعطاء التراخيص. أمّا نقابة عمّال البناء، فلا تستطيع ممارسة دورها "إلا بإذنٍ مسبق من صاحب العمل، وهو ما يستحيل حصوله"، كما يلفت عبدالله. والمرّات القليلة التي مارست فيها النقابة دورها "كانت في غالبيّتها تسلّلا، عن طريق أحد العمّال المقيمين في الورشة". اما "جهاز التفتيش والعمل والوقاية والسلامة" في وزارة العمل، فهو بأختصار يضم ..مفتشا واحدا لكل لبنان بعدما "تنازل" مفتّشا الشمال والبقاع عن مهامهما.


إحصاءات منظمة العمل