يتداول المواطنون أخباراً مفجعة عن مصرع أطفال يلهون في مدن الملاهي، ثم يتنفّسون الصعداء بعد أن يكذّبها رسميّون. لكن التكذيب لا يغني عن فتح ملف السلامة العامة الذي يتّضح أنه ملغوم بالفوضى والإهمال

رنا حايك
في الذوق طفلة ماتت في مدينة الملاهي. لدغها ثعبان كان قابعاً في اللعبة التي صعدت إليها. في النبطية وقع حادث مشابه. في صيدا قضت طفلة حين علق شعرها في إحدى الألعاب. تنتشر هذه «الخبريات» انتشار النار في الهشيم لتبثّ الرعب في نفوس الأهالي، وتذهب محاولات التوصل إلى هوية الضحايا سدى.
التقارير الرسمية تؤكد عدم وقوعها: تقارير الصليب الأحمر لا تذكر أي حادث أدى إلى مصرع أطفال في مدن الملاهي. رئيس شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، الرائد جوزف مسلّم، ينفي حدوثها، ويؤكد أن الشعبة لم تتلقَّ أي خبر عن حادث من هذا النوع مما يثبت أنها شائعة.
ورغم أنها شائعة، إلا أن مجرد تخيّل المشهد أصبح يمثّل حاجزاً نفسياً بالنسبة إلى الأهالي، يرعبهم، وخصوصاً مع غياب عناصر موضوعية ولوجستية في مدن الملاهي تطمئنهم إلى أن ضريبة لهو أطفالهم لن تكون موتاً فظيعاً.
ريما تختار لطفلتيها الأماكن المقفلة، تفضّلها على المدن المنشأة في الهواء الطلق، لأنها «تشعرها بالأمان أكثر»، رغم أنه أمان غير مطلق: «نحتاط زوجي وأنا في اختيار نوعية الألعاب التي نسمح لطفلتينا بالصعود إليها، ولا نفارقهما ولا لحظة، لكننا نفتقر إلى عناصر الاطمئنان وضمانات السلامة، وبعدما سمعت بشائعة الحية التي كانت مختبئة بين «الطابات الملونة»، لم أعد أسمح لطفلتيّ باللهو في تلك اللعبة».
تشارك فاطمة ريما رأيها وتضيف إن «الموضوع مرتبط أيضاً بوضع الأسرة الاقتصادي. فأنا أستطيع أن أصطحب ابني إلى مدينة ملاهٍ غالية أضمن فيها سلامته أكثر، لكن الأسر الفقيرة والمكتظة بالأطفال من الصعب أن تقوم بذلك، فتسترخص».
في ظل حالة الارتياب المسيطرة على الأهالي، تسلّم زهرا أمرها للقدر «لو فكّرت ملياً في الأشياء، لن أصطحب أطفالي إلى أي مكان».
أما جوان، فهي تقاطع مدن الملاهي، لأنها تجد أنها تفتقر تماماً إلى شروط السلامة العامة. كسرت قاعدتها هذه ذات مرة واصطحبت طفلتها آملة أن تعيد النظر في قرارها، لكن الواقع لم يزدها إلا تشبثاً به: «عمال الإنقاذ غائبون، وكذلك مراكز الإسعافات الأولية. العمال الذين يشغّلون الألعاب لم يحظوا بأي تدريب لممارسة مهمّاتهم».
تتشارك جميع الأمهات هذا الهلع من فقدان أطفالهن في مدن ملاهٍ اتّضح بعد تتبّع إجراءات إنشائها وأساليب الرقابة عليها أنها بمثابة «مغارة علي بابا»، يترك أمر صيانتها لمالكيها وضمائرهم، وتتوزّع الرقابة عليها بين جهات حكومية متعددة، فتضيع معها «طاسة المسؤولية».
يؤكّد أحمد أمهز، وهو صاحب عدة مشاريع في زحلة والهرمل وبيروت، أن مسؤولية الصيانة واحترام مبادئ السلامة العامة متروكة، إلى حد كبير، لصاحب المشروع: «أنتدب في كل مركز مهندساً أو مهنياً يقوم بتفقّد الألعاب والغاز والكهرباء يومياً. رقابة الدولة غائبة، والجهة المسؤولة عنها غير واضحة، نستخرج رخص المنشآت من وزارة السياحة ورخص الألعاب من البلدية بناءً على معاينة ميدانية من أحد موظفيها.
يختلف توصيف الجهة الرقابية من مالك مدينة ملاهٍ إلى آخر، فالاختصاصي في تجهيز مدن الملاهي ومصنّع الألعاب محمد دمج، يؤكد أن: «الدفاع المدني يكشف على المدينة لكن من دون أن تخضع الرقابة لدفتر شروط معين. نحن نمارس الصيانة اليومية لكن الجهات الرسمية تعاين دورياً، في المواسم. كذلك نحن نضمن نوعية الألعاب، فنحن نستوردها من شركات ذات صدقية عالية ونتّبع خرائطها والمواصفات التي تمليها».
أما رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمتنزّهات والمؤسسات السياحية في الجنوب، وصاحب العديد من مشاريع مدن الملاهي، علي طباجة، فيؤكد أن «الرقابة تمارس سنوياً من جانب وزارة الصحة على أنظمة السلامة العامة، وخصوصاً في ما يتعلق بالكهرباء وبمواقع الألعاب». ويضيف طباجة أنه لاحَق موضوع الشائعة التي انتشرت، وأنه ادّعى في النيابة العامة على مطلقها «المدفوع باعتبارات سياسية»، شارحاً «إننا نفرض، كمديري مشاريع، الصيانة الدورية، والدليل على نجاحنا في مهمتنا أنه خلال 12 عاماً من عملي في هذا المجال، لم تقع ولا حادثة واحدة خطيرة أو مميتة».
يتّضح من أحاديث أصحاب مدن الملاهي أن الرقابة ذاتية بجزء كبير منها، أما الجزء الرسمي، فهو غير واضح المعالم، مما استوجب «رحلة» على جميع الوزارات والدوائر: وزارة السياحة نفت دورها الرقابي وأحالتنا على وزارة الداخلية والبلديات، التي أحالتنا بدورها إلى المحافظات والبلديات.
يشرح الوزير ومحافظ بيروت السابق يعقوب الصّراف أن مدن الملاهي تندرج ضمن إطار «المؤسسات المصنفة التي تمنحها البلديات التراخيص المتعلقة بشروط السلامة العامة. وتتمحور هذه الشروط حول مواضيع الكهرباء والحريق وبوالص التأمين وعقود ضمان الشركات التي تركّب المعدات: فلكل لعبة دفتر شروطها الخاص بها، وعلى المستثمر أن يقدم ضمانات بأنه سوف يحترم بنوده. أما دور البلدية، فهو يتعلق بإعطاء رخصة الإنشاء ثم، بعد معاينة المنشأة، ومطابقتها للشروط، تمنح البلدية المستثمر رخصة الاستثمار لتشغيل المدينة».
لكن ماذا عن الرقابة اللاحقة، خلال التشغيل؟
عن هذا السؤال، يجيب الموظف السابق في احدى البلديات، الذي رفض ذكر اسمه، أن «المراقبة الدورية مهمة جداً لكنها غائبة، لأن الإدارة فارغة، فقسم المؤسسات المصنفة في البلدية الذي يجب أن يحوي 30 مراقباً، لم يعد يعمل فيه سوى اثنين، ولا يتحرك إلّا بناءً على شكوى، مما يتيح لأي كان افتتاح منشأته وتشغيلها دون أن يلتفت إليه أحد. لم يطلب مني يوماً أن أكشف على مؤسسة مصنفة، وحين قمت بذلك بمبادرتي الشخصية وأعطيت صاحب أحد النوادي الليلية في الجميزة إنذاراً لأن ناديه لا يحترم قواعد السلامة العامة، تلقّيت إثر ذلك أكثر من تهديد من جهات سياسية وزعماء سياسيين».
أما رئيس الدائرة الإدارية في بلدية الشياح، حكمت دعيبس الفغالي، فهو يعيد الفوضى المستشرية في مجال الرقابة على السلامة العامة في مدن الملاهي إلى التّشتت القانوني: «إن منح الرخص وصلاحيات المراقبة موزعة بين عدة جهات (راجع الكادر). يجب توحيد القوانين وحصر المرجع المسؤول عن مراقبة تطبيقها في جهاز واحد يضم ممثلين عن جميع الوزارات والجهات المعنية في منح الرخص والقيام بالمراقبة. فما يحدث الآن هو لا مركزية قانونية يصبح معها ضبط الأمور أصعب».
قد تسمّى لامركزية قانونية على سبيل التّساهل في التوصيف، إلا أن رائحة الفوضى المستشرية والإهمال وشبهات المحسوبيات والفساد التي تفوح من آليات تنظيم ومراقبة قطاع مدن الملاهي تطرح سؤالاً أساسياً: «هل يجب أن ننتظر لتصبح الشائعة حقيقة ويموت طفل وهو يلهو في مدينة الملاهي حتى يتمّ التحرك لتنظيم هذا القطاع وتفعيل الرقابة عليه؟.


بت منح الرخص

يشرح رئيس الدائرة الإدارية في بلدية الشياح، حكمت دعيبس الفغالي، دور البلدية في إجراءات إنشاء مدينة الملاهي، فالمستثمر يقدم الطلب إلى مصلحة الصحة في المنطقة التي تحوّله إلى البلدية استناداُ إلى أحكام المادة 51 من قانون البلديات لإبداء الرأي. تنشر البلدية إعلان الإنشاء وتوافق عليه إذا لم يجرِ الاعتراض عليه من المواطنين خلال 15 يوماً من نشره (وقد سجلت عدة سوابق منحت فيها الرخصة للمنشأة رغم اعتراض البلدية). وبعد أن تحيله على المحافظة للاستكمال، تكشف مصلحة الصحة على المنشأة، ثم يمنح الترخيص من جانب المحافظة أو القائمقام بحسب الفئة التي تنتمي إليها المنشأة. أما دور مصلحة المؤسسات المصنفة، فهو يتعلّق، بحسب المصدر الذي رفض ذكر اسمه، بمراقبة احترام شروط السلامة العامة. وهي شروط تُستخلص من عدة قرارات ومراسيم ويطبقها الموظف «بنسب معينة بحسب خطورة الألعاب التي يكشف عليها». إذا، تضاف إلى مشكلة تشتّت بتّ منح الرخصة وإجراء الرقابة مشكلة مصطلح السلامة العامة وتحديده الموزع في عدة وثائق، وتطبيقه الخاضع لنسبية خطورة الألعاب.