يُدهشنا الصغار حين نسمعهم ينادون آباءهم بأسمائهم، يختفي لقب «بابا» أو والدي، نشعر أن الأرض تزلزل تحت أقدام صاحب السلطة الأولى في الأسرة العربية. حين نتابع سلوكيات الآباء والأطفال الجدد يميل البعض إلى اعتبار أن الأسرة تتفكّك، وننسى أن مساحة الحرية قد تؤسس لعلاقة صداقة سليمة بين الأب وابنه أو ابنته. انحسرت الذكورية في الأسرة قليلاً، لكن هل يعني ذلك أن علاقات القوة غابت كلياً
خضر سلامة
«لا أستطيع أن أتصوّر أية حاجة في الطفولة أكثر قوة من الحاجة إلى وجود الأب وحمايته»، هذه المقولة وردت على لسان مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد. عندما يقرأ المرء «وجه المجتمع اللبناني الحديث» ويسترجع وجهه القديم، لا بد أن يلاحظ «القارئ» الفجوة الحاصلة بين صورة الأب في ذاكرة أبناء الأمس، الأب القاسي، «ديكتاتور عادل» للأسرة، صاحب الكلمة ـ القرار في أي فكرة تعبر في البيت العائليّ، وبين صورة الأب اليوم، صديق طفله، وأحياناً، الفاقد القدرة على التحكم المفصلي في خيارات أسرته أو يوميّاتها.
لا يزال «أبو حازم» العجوز البقاعي، يعلّق صورة والده الراحل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فوق مقعده، يترحّم عليه، ينظر إلى الصورة الخالية من الألوان، والمنحوتة جيداً بتفاصيل الشارب العتيق والتجاعيد القاسية لمشهد «السلطة» السابقة في هذا المنزل، ويحدثنا أبو حازم، كيف كان الجميع يتأهب وقوفاً عند عودة الوالد إلى المنزل ليلاً، وكيف كان المرحوم يقرر مستقبل أبنائه، من سيعمل في الحقل معه، ومن سيذهب إلى المدينة، من سيتزوج وبمن، قرارات لم يكُ للنقاش فيها أي احتمال.
وفي المشهد الآخر، يخرج رامي ذو السبع سنوات من حجرته، سائلاً عن «حسين»، والأخير هو والده الثلاثيني! يهجم رامي على والده ممازحاً إياه، يتبادلان «الضربات»، ثم يغرقان في الضحك، تاركين الامتعاض للجدة التي تلعن «ترباية هالأيام».
نعود قليلاً إلى صلب الموضوع، «علينا أن نفهم أن في الأسرة، أية أسرة، علاقات قوة تاريخية يملكها الزوج، علاقته بزوجته، وبأبنائه، علاقة متجذّرة في امتلاك المال، العمر والخبرة، مدى اطّلاعه على ما هو خارج جدران المنزل، علاقات تحولت سابقاً إلى علاقات هيمنة أفرزت مجتمعاً «بطريركياً» حيث قرار الأب يملك كل فضاء الأسرة» يقول الدكتور ساري حنفي، ويتابع متحدثاً عن التطور الذي حدث في المجتمعات العربية «ولو بدرجات متفاوتة، انحسرت الذكورية في الأسرة قليلاً، إلا أن ذلك لم يغيّب علاقات القوة بشكل تام، مع الاحتفاظ بالدور التربوي للأب على الأقل، وهذا الانحدار في بطريركية الأسرة ليس مشهداً سيئاً، على العكس».
ماذا عن السلطة التي اعتاد أن يملكها الأب؟ يجيب حنفي «لا يمكننا أن نفصل دور الأب عن دور الأم، إلّا أن النظام الأسريّ اعتاد أن يسلّم الأب مهمة العقاب مثلاً، مقابل الثواب للأم، كما أن النظرة إلى الأب، الرجل، في المنزل، جزء من الموروثات، عرفنا امتلاك الأب لمفتاح الفضاء خارج المنزل، مقابل محدودية دور الأم في المنزل، هذا العامل المهم آخذ في التآكل شيئاً فشيئاً مع اتجاه المرأة إلى الخارج أيضاً».
ويكمل حنفي، البروفسور المساعد في قسم العلوم الاجتماعية والسلوكية في الجامعة الأميركية في بيروت، فيصر على أن المجتمعات المحافظة لا تزال تحتفظ بسلطة الأب القوية، ولو وجدت حالات متفرقة مختلفة «وهذه الأخيرة هي نتيجة للعولمة، حيث لم يعد بإمكاننا أن نفهم دينامية المجتمع ضمن حدود الدولة القومية وحدها، بل في مقياس أوسع وأكبر، العولمة حضرت إلى مجتمعاتنا بطريقة راديكالية محافظة، حيث شهدنا أيضاً من علامات تراجع السلطة الأبوية، ولو بنسبة ضئيلة، تراجع مفهوم الأسرة ــــ الوحدة الاقتصادية، وأصبح الاقتصادي العائلي أقل حجماً، إضافة إلى عامل الهجرة الذي أسهم في إدخال الاستقلالية الفردية». هذه العوامل، بحسب حنفي، أدت إلى فتح المجال أمام الأفراد الأبناء، لتكوين شخصيات مستقلة، والتحول من علاقة القوة والتحكّم (بالنسبة إلى الأب) أو الخضوع (بالنسبة إلى الآخرين)، إلى علاقة المفاوضات داخل الأسرة.
من جهة أخرى، يرفض حنفي بشكل قاطع تبنّي مفهوم «تفكّك الأسرة» أمام الظواهر الجديدة المتعلقة بتحوّل علاقة الأب بأبنائه، «هناك عائلات اليوم ذات قطب واحد، أب أو أم، يمكننا أن نتحدث عن ضعف مؤسسة الأسرة أمام مؤسسة الصداقة والمدرسة، لا عن تفكّكها وانحلالها كما يزعم خطباء الجوامع والكنائس.. في عبارات تحمل عنفاً رمزياً ضد المتحررين من السلطة الذكورية الجامحة والمؤذية».
أخيراً، يرى حنفي أنّ من المهم إنشاء علاقة حوار بين الأب والطفل، وعلى الأول أن يعترف بشخصية الابن، والاقتناع بما تركه لنا جبران خليل جبران حين قال: «أبناؤكم ليسوا لكم، أبناؤكم أبناء الحياة».
ويبقى لنا، أن نجزم بأن الأب مفتاح شخصية الأطفال ومستقبلهم، وصاحب قيمةٍ لا تقل أهمية عن قيمة الأم في المنزل، ولو شابت هذه القيمة تشوّهات أحدثتها في الماضي سلطة انقلبت تسلّطاً للأب على الأسرة، وانقلبت حديثاً إلى أوراق مشرّعة على رياح العولمة السريعة، تاركةً المجتمع أمام صور مختلفة لعلاقات الأسرة بالأسرة نفسها.. فأي الصور نفضّل أن نحفظ؟.


صورة «سي السيد»

حين نتحدث عن الأب المتسلط تسيطر على مخيلتنا الجماعية صورة «سي السيد» أو سيد عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ، إضافةً بالطبع إلى رمزية هذه الشخصية كرجل قاهر لزوجته. حين يدخل «سي السيد» إلى المنزل تنتفي كل أشكال الابتهاج، الكل يردّد له «سمعاً وطاعة»، والكل ينحني أمام رغباته.
والغريب أن بعض الأعمال الفنية التلفزيونية والسينمائية العربية باتت تمجّد من جديد صورة الأب والزوج المتسلّط، وتستعيد في هذه الأعمال سلوكيات تجعل من الأب السلطان الأوحد دون مناقشة سلبيات هذا الدور على الأب نفسه أولاً ثم على الزوجة والأولاد.
وكانت دراسة أعدّتها مؤسسة «الكوثر» التونسية قبل 3 أعوام، قد تبيّن خلالها أن المراهقين العرب من أبناء الجيل الجديد يظهرون طاعة عمياء لآبائهم