مصطفى بسيوني *«دخل أحمد نظيف على الرئيس مبارك وعليه سمات التوتر والقلق، فسأله مبارك عما به، فأجابه أنّ الشعب لم يعد يحتمل المزيد، مقترحاً على الرئيس أن يعدّ خطاب الوداع... عندها سأله مبارك بأسى: هل قرر الشعب الانصراف إذاً أخيراً».
هي مجرد واحدة من مئات النكات التي يتداولها المصريون. ولكن هل يعلمون أن مضمون تلك النكتة تحقق بالفعل على أرض الواقع، وأن الشعب انصرف وبقي مبارك؟
قراءة سريعة في إشارات السكان في مصر ربما توضح الفكرة: كان عدد سكان مصر عام 1981 ـــ عام تولّي مبارك الرئاسة ـــ حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 42 مليون نسمة، وحسب إحصاءات الجهاز نفسه وصل عدد السكان فى 2008 إلى 76 مليون نسمة.
ولكن البيانات تذكر تفاصيل أكثر: عدد السكان تحت سنّ خمس سنوات حوالى 7.7 ملايين، ومن خمس إلى 15 سنة حوالى 15.4 مليوناً، ومن 15 إلى 19 سنة حوالى 8.8 ملايين، ومن 20 إلى 29 سنة حوالى 14.7 مليوناً...
تشير تلك البيانات إذاً إلى أن عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة في مصر حوالى 46.6 مليون نسمة، وهي تصل إلى 62.56% من إجمالي السكان. أكثر من نصف الشعب المصري إذاً من مواليد عهد مبارك. لم يفتح عينيه إلا على قوانين الطوارئ والتطبيع وسياسات التكيف الهيكلي والخصخصة. وشملت نسبة «الإحلال والتجديد» في الشعب المصري أكثر من نصف السكان، وأصبح الشعب الذي تسلّم مبارك حكمه أقلية لا تزيد على ثلث العدد الإجمالي للسكان.
على المستوى السكاني، استطاع مبارك بالفعل تغيير الشعب، لكنه أمر طبيعي لا يعبر إلا عن طول فترة الحكم التي تجاوزت ربع قرن، ولا يمكن توجيه نقد للرجل، لأن معدلات الوفيات والمواليد أدت إلى تغير الشعب في عهده. ولكن يبدو الأمر أعقد عندما ننظر إلى بعض الظواهر في المجتمع التي توحي بأن تغيراً أكبر قد طرأ على المجتمع المصري في عهد مبارك.
لم يكن مثلاً من المتصور قبل سنوات أن تقع حوادث التحرش الجنسي الجماعي في وضح النهار، وفي كبرى الميادين في مصر، وتتكرر على نحو ما حدث في السنوات السابقة. ظاهرة كهذه توحي بأن ما تغير في الشعب المصري كان أعمق وأبعد من بيانات السكان.
وإذا نظرنا إلى الريف المصري مثلاً، فسنجد أن ما ألمّ به في عهد مبارك فاق ما حدث فى آلاف السنين. فعلى مدى القرون في ريف مصر، غيّر الفلاح المصري دينه ولغته مرات عدة، ولكن ظلت علاقته بالأرض ثابتة لا تتغير، ربما بالشكل الذي صوّره يوسف شاهين في فيلمه الشهير «الأرض»، عندما فضّل بطل الفيلم الموت متشبثاً بأرضه. كانت الأرض إذاً أكثر رسوخاً حتى من الدين واللغة، وجاء عهد مبارك وغيّر ما لم تغيره القرون. وكان تطبيق قانون الإيجارات الزراعية الجديد إيذاناً بإعلان علاقة جديدة بين الفلاح والأرض، ليس فقط بطرد ما يقرب من مليون مستأجر من الأراضي التي كانوا يزرعونها، بل عبر تحرير العلاقات الزراعية ورفع الدعم عن المستلزمات الزراعية. أدت تلك التغيرات إلى علاقات جديدة في الريف، فالفلاح الذي كان مستقراً في الأرض، كان يعنيه رفع خصوبتها وتنقيتها والحفاظ عليها، أما الفلاح الذي يستأجر الأرض لمدة سنة بستة آلاف جنيه للفدان اليوم، بعدما كان الإيجار قبل تطبيق القانون 660 جنيهاً للفدان، فإن ما يعنيه أولاً هو تحصيل ما دفعه من إيجار وتكاليف زراعية باهظة، وأصبحت بالتالي العلاقة نفعية بينه وبين الأرض.
فالفلاح لا يثق في ما إن كان سيتمكن من إعادة استئجار الأرض نفسها، لذا فالأهم عنده بات نزع أقصى ما يمكن نزعه منها هذا العام، حتى وإن أدى ذلك لإجهادها وخفض خصوبتها.
التغيرات التي وقعت فى أوساط العمال لم تكن أقل عمقاً ولا مأساوية. والظاهرة الأكثر لفتاً للنظر هي الخروج المبكر على التقاعد، وهو المشروع الذي طرح في شركات القطاع العام منذ منتصف التسعينيات، وكان يقضي بخروج العمال قبل السن القانونية إلى التقاعد في مقابل تعويض مالي عن سنوات الخدمة الباقية. كان المشروع من جانب الحكومة متّسقاً مع سياسات التكيف الهيكلي التي هدفت إلى تصفية القطاع العام وخصخصة شركاته بعد تقليص عدد العمال. وكانت المفاجأة هي تزاحم العمال الشديد على الخروج المبكر، فكانوا يقفون في طوابير طويلة من أجل الخروج إلى البطالة وترك وظائفهم، وخاصة أن التعويضات كانت هزيلة.
تناقض شديد بين هذه الظاهرة وظاهرة العمل التطوعي في أيام الإجازات لدعم المجهود الحربي في الستينيات والسبعينيات. التحولات القاسية في علاقات العمل التي جرت في عهد مبارك تفسر وحدها هذا التحول. فقد شهد هذا العهد الانتقال من سياسات القطاع العام والتزام الدولة بالتشغيل واستقرار العمال والضمان الاجتماعي، إلى سياسات السوق الحرة وتحرير علاقات العمل. عاصفة الخصخصة التي ضربت شركات القطاع العام وتغيير تشريعات العمل أنهت استقرار العمال في الشركات، ودفعتهم للتضحية بفكرة العمل نفسها والقبول بالبطالة بدلاً من تهديد أكثر قسوة.
ارتبط العمل سابقاً بمشاريع عملاقة حملت معها طابعاً وطنياً واجتماعياً تغير بقوة في عهد مبارك وغيّر معه قيمة العمل والعمال. فالفارق واضح بين العمل في بناء السد العالي بما حمل من تحدّ للقوى الاستعمارية والتقدم والتنمية، والعمل في مشروع «توشكي» ليمتلك حفنة من الأغنياء مئات الآلاف من الفدادين.
وفارق كبير بين العمل في شركة الحديد والصلب المصرية لتدعيم الصناعة الثقيلة وتغذية الصناعات الهندسية، والعمل في «شركات عز لحديد التسليح» لتدعيم احتكار أحمد عز للحديد. وفارق كبير بين العمل في مصانع السلاح والكيماويات والنسيج في علاقات عمل مستقرة نسبياً، والعمل في المدن الصناعية الجديدة والمناطق الصناعية الحرة ومناطق «الكويز»، بدون استقرار أو نقابات أو حتى ساعات عمل محددة.
ألا تكفي هذه التحولات لدفع العمال للفرار من العمل إلى أرصفة البطالة، حتى وصل عدد الخارجين على المعاش المبكر إلى 600 ألف عامل!
الطلاب المصريون لم ينجوا كذلك من التغيرات الجراحية للمجتمع ككل، وأي نظرة على الجامعات المصرية تظهر الفارق بين تلك التي خرجت منها تظاهرات 1946 التي استشهد فيها الطلاب، وتظاهرات السبعينيات التي طالبت بتحرير سيناء، والجامعات التي أنشئت فيها اليوم مطاعم الوجبات السريعة ومحلات الأكسسورات والدروس الخصوصية، وتقلص فيها دور العلم والسياسة والفن.
التغيرات السكانية صاحبها تغيرات في الوعي والسلوك الجماعي، عبر سياسات منظمة أحلّت قيماً وسلوكيات محل أخرى، جنباً إلى جنب مع الإحلال السكاني. هكذا أصبح أكثر من 62% من السكان في مصر لم يعرفوا من الديموقراطية سوى قانون الطوارئ والمحاكمات العسكرية، ومن الاقتصاد سوى سياسات الخصخصة والتكيف الهيكلي، ومن الصراع العربي ـــ الصهيوني سوى كامب دايفيد ومدريد وأوسلو والتطبيع.
غيّر الحاكم الشعب. ولكن لا يبدو أن تلك الجراحة كانت كافية. فأطفال المدارس الذين لم يكادوا يفهمون معنى الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، خرجوا في أيلول / سبتمبر 2000 في تظاهرات غاضبة. عندما رأوا مشهد اغتيال قرينهم محمد الدرة، وشباب العمال الذين عملوا في القطاع الخاص والمناطق الحرة ولم يعرفوا يوماً شيئاً عن العمل النقابي أو حتى قوانين العمل، أضربوا واعتصموا للمطالبة بأجور عادلة ونقابات حرة، والموظفون الذين لم يعرفوا يوماً الإضراب والاعتصام أضربوا واعتصموا للدفاع عن حقوقهم، والفلاحون الذين عصفت بهم السياسات الزراعية الجديدة وبدلت أحوالهم عادوا ليتظاهروا أمام الجمعيات الزراعية ويعتصموا في الأرض ضد طردهم منها، والطلاب نظموا أنفسهم ضد ارتفاع المصروفات وتزوير انتخابات اتحاد الطلاب وغيرها.
لقد تمكن مبارك من تغيير الشعب القديم بشعب جديد على مدى ربع قرن. ولكن الشعب الجديد الذي لم يعرف سوى مبارك حاكماً، يبدو أن بإمكانه أن يغيّر الحاكم القديم.
* صحافي مصري