على طرف الطريق بين النبطية وإقليم التفاح، توحي جميع الإشارات بأن ثمة نهراً مرّ من هنا، قبل أن يغادر مجراه، ربما إلى غير رجعة. من هذه الإشارات خيط رفيع من مياه نبع الطاسة، الرافد الأساسي لنهر الزهراني، «سقطت سهواً» من المضخّات التي أرستها مصلحة مياه نبع الطاسة عام 1982، وتحاول اليوم «مصادرتها» لتتسبّب بالمزيد من تعطيش تراب المنطقة وأهلها

كامل جابر
في إقليم التفاح، ثمة جدول شحيح من المياه لم تشمله «مصادرة» الجهات الرسمية المسؤولة عن مياه نبع الطاسة لموارده، يقطع بعض مئات أمتار بعد النبع ويغور بين الصخور.
يجسّد هذا الجدول اليوم أملاً جديداً لمصلحة مياه الجنوب في تجريد نهر «الزهراني» من بقية رحيقه، ما يسدل الستار على صورة لمجرى نهر أضناه التصحر.
لا يجد جيران الزهراني لما فعلته وزارة الموارد المائية والكهربائية، ومجلس الإنماء والإعمار ومصلحة مياه الجنوب، بنهرهم الأشهر في منطقة إقليم التفاح، وصفاً أقل حدة من «الحيلة والتحايل».
«حيل» بدأت منذ عام 1982، تحت عناوين مختلفة، ولم تنته حتى الأمس القريب. فهناك مسعى لمجلس الإنماء والإعمار ومحاولات غير منقطعة، لوضع اليد على البقية الباقية من المياه التي حجبت تماماً عن النهر بعد مصادرة ما نسبته 95 بالمئة من النبع، وجرّ قسم من مياه الشتاء إلى خزانات خارج حوض النهر.
في المقابل، لم تتوقف محاولات بلديات منطقتي النبطية وإقليم التفاح وجمعياتهما، وخصوصاً منذ ما بعد التحرير في عام 2000، ومن خلال عشرات الكتب والمراجعات الرسمية والتحركات الشعبية، عن إنقاذ النهر ومجراه؛ وإعادة بعض الحقوق إلى أصحابها، لا سيما في الحقول والمناطق التي استخدمتها وزارة الموارد المائية والكهربائية لمدّ شبكات خطوطها منذ عام 1982.
فحتى اليوم، لم يُمنح المتضررون المستحقون تعويضاتهم التي يلحظها قرار الوزارة المذكورة، الذي وقّع بتاريخ 1/6/1982، وجاء فيه: «تنشئ دائرة تنفيذ مياه الجنوب خط جرّ جديداً من نبع الطاسة إلى عربصاليم لفصل مياه النبطية عن مياه إقليم التفاح، علماً بأن الإدارة لن تجرّ المياه التي لا تزال تسيل في النهر، في هذا الخط، ولن تتعرض للمياه التي ما زالت مخصصة للري في منطقة الينابيع، كما أنها بصدد دفع التعويضات العائدة لمواقع مرور الخط في وقت قريب جداً».
تمر السنون، وتسحب دائرة تنفيذ مياه الجنوب مجمل مياه نبع الطاسة، المغذي الأساسي لنهر الزهراني، لتصيب مجرى النهر بالعطش والتصحر، وهي «مستقيلة» من تنفيذ واجباتها والالتزام بقراراتها.
فبدل أن يتلقى أصحاب الحق تعويضاتهم، تلقوا صفعة سحب المياه كلها دون استثناء عن بساتينهم.
أما «آخر بدع الدولة» كما تسمّيها رئيسة «جمعية نداء الأرض البيئية»، زينب مقلد، فهي: «قرار مجلس الإنماء والإعمار إنشاء خط جرّ جديد على مسار الخط الحالي من نبع الطاسة إلى بلدة شوكين في قضاء النبطية بطول 13 كلم كي يؤمن المياه خلال ستة أشهر في السنة، للاستفادة من بعض فائض المياه في النبع أثناء موسم الشتاء كبديل عن ضخ المياه من آبار فخر الدين».
وتضيف شارحة: «أهل مكة أدرى بشعابها، ونحن أدرى بوادينا ونبعه، ولنا تجربة سابقة مريرة سنة 1982 بخط نفّذ خلسة ومن دون وجه حق، بات يعرف بخط أنور الصباح (الوزير الأسبق لوزارة الموارد). فهذا الخط كان أيضاً على أساس أن يكون لفصل الشتاء، لكنه تحوّل بسحر ساحر إلى خط لجر المياه صيفاً وشتاءً، وهذا ما لا نقبله مطلقاً».
يضاف كلام مقلد إلى كتاب وجّهه رئيس اتحاد بلديات إقليم التفاح ورؤساء بلديات عربصاليم وحومين الفوقا وجرجوع ومختارين وجمعيات من بلدتي عربصاليم وجرجوع إلى مجلس الإنماء والإعمار، منذ نحو عام، يعترض على مشروع المجلس ويشير إلى أن الموقّعين على الكتاب بصدد توكيل محام لإقامة دعوى قضائية على الدولة اللبنانية أمام شورى الدولة «لأنها أخذت كل مياه نبع الطاسة وقطعت أرزاق المواطنين، وقضت على البيئة والطبيعة في وادينا، ما يمثّل مخالفة صريحة لمعاهدة التّنوع البيولوجي التي وقع عليها لبنان».
بنى الأهالي اعتراضهم على أساس أن الوادي الذي يمتد من نبع الطاسة إلى حبوش، قبل أن ينساب نحو الساحل ليصب في منطقة الزهراني، جنوبي صيدا، حُرم من مياه نبع الطاسة التي سُحبت كلياً (تقريباً) إلى مناطق النبطية والزهراني وشرقي صيدا. وتسبّب ذلك باختفاء القناتين الغربية والشرقية على ضفتي النهر، وتوقّف أكثر من 10 طواحين مائية منع توقفها الأهالي من ري بساتينهم التي كانت تمثّل مورداً أساساً لمعيشة العديد منهم.
«ولهذه الأراضي حق قانوني في مياه نبع الطاسة بحسب سندات ملكيتها» كما تفيد مقلّد التي تلفت إلى أنه «لم تبق غير ينابيع رديفة متواضعة، ليست كافية من دون إمدادات مياه نبع الطاسة لإعادة النسغ إلى حياة بساتين كانت تفيض بالخير».
وإذ يروي رئيس بلدية جرجوع محمد مقلد، «أبو غسان»، بإسهاب، الذكريات «الرائعة» لأهالي إقليم التفاح ومنطقة النبطية على ضفاف الزهراني، يؤكد أن «ثمة صفقات متتالية يتعرض لها النهر»، كان آخرها «السدّ الذي نفّذ أخيراً قرب نبع الطاسة والذي من المرجّح أن تجرفه سيول أول موسم غزير الأمطار، إذ إنه لم ينفذّ حسب المواصفات القانونية المطلوبة، وبدأت تظهر فيه التشققات منذ الآن». ويتابع «من المفترض أن تكلفة هذا المشروع وصلت إلى 100 ألف دولار. لكن، بتقديري، لم يكلّف إنشاؤه 20 ألف. فأين ذهب الباقي؟».
لا ينفي أبو غسان «حق الدولة في استثمار مياه نبع الطاسة»، ويوضح موقفه قائلاً: «نحن لا نمانع في ذلك. ولا نريد احتكار المياه لأنفسنا»، لكن منطق الاستئثار هو ما نحتج عليه: «لا يحق للدولة أن تأخذ أكثر من 60 بالمئة من مياه النبع حتى لا تقتل النهر والمجرى. وقد أخذت أكثر من 95 بالمئة أيام الاحتلال الإسرائيلي عندما نفذت مشروع الوزير أنور الصباح، ومن النبع مباشرة، لا من خلال سدود متوزعة تستفيد منها ولا تضر بالنهر. الدولة سحبت من المياه ما يمكن أن يتسبب بتصحر النهر، وهذا ما جرى، ولا يمكن نعت ذلك إلا بالتحايل علينا، واليوم يريدون القضاء على البقية الباقية، وهذا ما لا نقبله وسنتصدى له بكل طاقاتنا، فالمؤمن لا يلدغ من الجحر الواحد مرتين».


أثراً بعد عين

مثّل نهر الزهراني على امتداد تاريخه مصدر رزق أساسياً لسكان القرى التي تحيط به من خلال الزراعة وصيد السمك. كما لعبت بيئته الغنية دوراً كملتقى للراحة والاستجمام والسباحة. يمتلك النهر تراثاً من المطاحن المائية التي لم يزل أبناء الإقليم يتذكرون أسماءها واحدة واحدة: «الفوقا» و«الوسطانية» و«التحتا» التي باتت على نحو معاصر الزيتون أثراً بعد عين