خالد صاغيةما كادت أحداث جورجيا تشتعل، حتّى بشّر البعض بنهاية عصر الهيمنة الأميركية، فضلاً عن الحنين إلى زمن الحرب الباردة الذي قاد إلى تناسي الفارق بين روسيا والاتحاد السوفياتي والمتغيّرات التي جرت بين انهيار الثاني وبدء صعود الأولى. وما كادت القضية الجورجية تغادر واجهة الأحداث، حتّى اندلعت أزمة الأسواق المالية، فذابت المسافات بين أزمة تصيب قطاعاً محدّداً في الاقتصاد الأميركي، وانهيار للمنظومة الاقتصادية الأميركية. لكثرة ما تراكمت خيبات المعادين للهيمنة الأميركية، منذ نصف قرن إلى اليوم، يبدو التفاؤل بأفول هذه الهيمنة ضرورة لاستمرار مقاومتها والنضال ضدّها. لكنّ هذا التفاؤل نفسه قد يتحوّل إلى عيش هانئ في عالم الأحلام المنقطع عن الواقع وتعقيداته. يحاول البعض لصق هذه النزعة التفاؤليّة بالعرب وحدهم، بعد أن يُتبنّى بعض الصفات التي أغدقها الخطاب الاستشراقي عليهم. لكنّ الحقيقة أنّ العرب بعيدون عن التفرّد بهذه المبالغة في تصديق قرب انهيار الإمبراطوريّة.
لندع جانباً ما تقوله الشعوب المقهورة الأخرى، ولننظر إلى مثالَين متباعدَين للنقاشات داخل الولايات المتّحدة نفسها.
المفكّر الماركسي إيمانويل والرشتاين كتب مقالته السياسيّة الدوريّة الأخيرة تحت عنوان «النظام الجيوسياسي العالمي الجديد: نهاية الفصل الأوّل». إنّها نهاية قد حُسمت مع الاتفاق الذي وقّعه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ممثّلاً أوروبا، مع الرئيس الروسي ديميتري مدفيديف في التاسع من أيلول الجاري. الولايات المتحدة لم تغب عن هذا الاتفاق وحسب، بل قدّمت مليار دولار لإعادة إعمار جورجيا، من دون أن يشمل ذلك أي مساعدات عسكرية. ومن لم يفهم مغزى هذه الخطوة، سارع وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس إلى إفهامه، حين قال: «إن قمنا بأي عمل متسرّع، فقد ينتهي الأمر إلى أن نكون نحن المعزولين».
يقرن والرشتاين فقدان الولايات المتحدة لأي أوراق رابحة في جورجيا، بالفشل الذي تواجهه في الشرق الأوسط، وتحديداً في العراق وباكستان وأفغانستان، حيث بدأ حلفاء أميركا الأمينون يعترضون على عملياتها العسكرية داخل بلدانهم. تغيّرت قواعد اللعبة إذاً، وبات على الولايات المتّحدة أن تلعب وفقاً لقواعد جديدة. فقد تغيّر عالم ما بعد الحرب الباردة.
إنّها نهاية الفصل الأوّل، يقول والرشتاين. نهاية بات معها واقع تعدّد الأقطاب حقيقة. لكنّ الفصل الثاني هو ما سيوضّح الصورة، قبل أن نشاهد الفصل الثالث والأخير.
على الطرف النقيض من والرشتاين، يطلّ روبرت كاغان، أحد منظّري المحافظين الجدد ومستشار الشؤون الخارجية للمرشّح الجمهوري جون ماكاين. لا يُغفل كاغان أخطاء إدارة جورج بوش، لكنّه ينفي الصورة السوداويّة التي يحاول البعض رسمها. فبعكس والرشتاين، لا يرى كاغان في الوضع الدولي الحالي تهديداً لهيمنة الولايات المتّحدة الأميركية. صحيح أنّنا لا نشهد تعاوناً مع الإدارة الأميركية من النوع الذي كان سائداً أيام الحرب الباردة، لكنّ النظام العالمي لن يتغيّر: ستبقى الولايات المتحدة هي القوّة العظمى الوحيدة، وإن نَمَتْ إلى جانبها قوى متعدّدة.
فالقوى الأخرى الآخذة بالصعود لا يمكنها أن تتكتّل لتشكّل قطباً مواجهاً. الصين، مثلاً، تبقى أكثر توجّساً من روسيا ممّا هي عليه تجاه أميركا. أمّا البرازيل والهند، فلا يعنيهما توازن القوى مع الأميركيين. أوروبياً، نيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل أكثر قرباً من الولايات المتحدة بما لا يقاس ممّا كانت عليه الحال في زمن جاك شيراك وغيرهارد شرودر. أمّا دول أوروبا الشرقية، فيزداد خوفها من روسيا يوماً بعد يوم. حتّى في الشرق الأوسط، لم يحصل أي تغيير استراتيجي لغير مصلحة الولايات المتحدة. يكفي أن نقارن وضع دول الخليج ومصر والأردن وسوريا بما كان عليه في زمن عبد الناصر والسوفيات.
لا يدافع كاغان عن كلّ ما قامت به إدارة جورج بوش، لكنّه يدافع عن دوافعها التي لم تكن، بحسبه، تدخّليّة في شؤون العالم بقدر ما كانت واقعية تنطلق من الدفاع عن مصالح الولايات المتحدة. ورغم العديد من الأخطاء، يرى كاغان الحرب على الإرهاب نجاحاً عظيماً لبوش. «فما من مراقب جدّي اعتقد بعد 11 أيلول أنّ سبع سنوات ستمرّ من دون اعتداء إرهابي إضافي واحد على الأراضي الأميركية».
رغم الاختلاف في تقويم التأثيرات التي ستتركها البوشيّة على مستقبل الدور الأميركي في العالم، فإنّ الواضح، حتّى في تحليل كاغان، أنّ الفصل الأوّل قد انتهى. وإذا كان والرشتاين قد أفرط في تفاؤله بشأن الفصل الثالث، فقد بقي لنا اليوم أن نختلف على طبيعة الفصل الثاني.