سعد اللّه مزرعاني *في هذا الكلام إذاً، شيء من الصحة. وقانون 1960 هو أفضل من قانون المرحوم غازي كنعان، من هذه الناحية تحديداً. لكن محاكمة الأمور بهذه الطريقة تفرض التسليم مسبقاً بحصر النقاش في نطاق تقليديات النظام الطائفي ـــ المذهبي وتوازناته. وهي تفرض أيضاً، وهذا هو الأخطر، التخلي عن طموح وشعار إصلاحييّن، كانا قد ترددا ولو بخجل، في أدبيات عدد من قوى المعارضة ومواقفها وتوجهاتها (في صيغتها السابقة قبل تأليف الحكومة الحالية).
وتطرح في هذا السياق، وتحديداً على أطراف تلك المعارضة، عشرات الأسئلة، وبعضها خطير ومقلق. أحد هذه الأسئلة: ألم تتلمس تلك القوى بعد، أو بعضها على الأقل، المخاطر الفظيعة المتربصة بمصير لبنان واللبنانيين نتيجة الانقسام الطائفي والمذهبي، ونتيجة استخدام هذا الانقسام كأداة أساسية من جانب قوى إقليمية ودولية في مشاريعها لفرض سيطرة أميركا وحلفائها على المنطقة، ومنها لبنان؟ نخشى أن يكون في تصور بعض هذه القوى وهمٌ أن الأمور ما زالت قابلة للسيطرة، من خلال تحسين موازين القوى التقليدية، ومن خلال امتصاص التوترات المذهبية بـ«المصالحات» وبما شاكلها.
الواقع لا يشير إلى ذلك، بل إلى عكسه. وها هي «عدة الشغل» في عملية إطلاق التوتر المذهبي تندفع إلى حدها الأقصى. وتتوسع ورشة هذه العملية، لينخرط فيها أيضاً، رجال دين، وإعلام مؤثر (محلي ودولي، أرضي وفضائي)، هذا فضلاً عن جهود دول وعن أجهزة هذه الدول، وما يرافق ذلك من رصد ميزانيات مالية و«عينية» خيالية لهذا الغرض.
والسؤال الثاني، الخطير هو الآخر: هل يظن فريق «التيار الوطني الحر» أنه يستطيع إعادة القمقم الطائفي إلى أسره بعد إطلاقه (ولو مؤقتاً، وعلى سبيل الدفاع عن النفس وعن المواقع)؟ ألم نرَ كيف سارع سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية»، إلى تلقف هذا الأمر، ليصول ويجول، باسم «المجتمع المسيحي»، فارضاً الشروط ومحدداً المواصفات والسياسات والبرامج، من أجل إنجاز المصالحة المسيحية ـــ المسيحية؟ بكلام آخر، إن للطائفية والمذهبية أربابهما. وليس لـ«الدخيل» أن ينافس، في هذا الحقل، الأصيل!
لقد روى مشاركون في «مؤتمر الدوحة» من أطراف المعارضة، أن ممثليهم هناك، قد طرحوا مسألة التمثيل النسبي، عندما احتدم واستعصى النقاش، بشأن تقسيمات الدوائر الانتخابية في مدينة بيروت. وقد رفض ممثلو الأكثرية النيابية (الموالاة) كل صيغ النسبية لمعالجة هذا الأمر. لقد حصل ذلك بالفعل. لكنه لم يكن أمراً أساسياً في طرح أطراف المعارضة آنذاك، ولا في خطتهم أصلاً. وهذا يحيل في أحد العناوين الأساسية، إلى أن المعارضة قد افتقرت دائماً إلى شق إصلاحي وتغييري في برامجها. ويعود ذلك إلى تقدم مسألة المقاومة وأولويتها بالنسبة للطرف الأساسي فيها، من جهة، وإلى انخراط أطراف أخرى فيها، في لعبة النظام الطائفي من أوسع أو من أضيق أبواب هذه اللعبة، من جهة أخرى.
أمّا السبب الثاني لتراجع البند الإصلاحي، فهو عائد إلى تراجع دور الاتجاهات والأحزاب اليسارية والديموقراطية ونفوذها، التي مثّل بعضها العمود الفقري للمشروع وللصيغة الإصلاحية لـ«الحركة الوطنية اللبنانية»، بالتعاون مع القائد الشهيد كمال جنبلاط.
وموضوع الإصلاح لا يقتصر حكماً على الانتقال في القانون الانتخابي، من النظام الأكثري إلى النظام النسبي. الواقع أن الأهم من ذلك هو الانتقال إلى إلغاء كامل أو تدريجي للقيد الطائفي في النظام الانتخابي. وهنا تقع أيضاً المفارقة الأخطر.
صحيح أن قانون عام 1960 يخالف وثيقة الوفاق الوطني في ما يتعلق بتقسيم الدوائر (من حيث هو يعتمد القضاء بدل المحافظة)، إلا أن استمرار اعتماد التوزيع الطائفي لمقاعد المجلس النيابي، يمثّل مخالفة دستورية موصوفة ومكشوفة ووقحة!
لا شيء لدينا أوضح من النص الدستوري بشأن قانون الانتخاب: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتّخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتأليف هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية... مهمة الهيئة دراسة الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية واقتراحها وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية» (المادة 95 من الدستور).
حصلت المناصفة عام 1982، أي منذ 16 سنة! وجرت بعد ذلك ثلاث دورات انتخابية. وها نحن على أبواب الرابعة. ومع ذلك لم يحرك أحد ساكناً لجهة تنفيذ بند دستوري ملزم!
سيقول قائل: إنّ ذلك سيكون موضوع طعن، بما يبطل الانتخابات ونتائجها. لكن حراس النظام الطائفي ومدمني الفئوية قد احتاطوا لذلك بإلغاء «المجلس الدستوري»، مرجع الطعن الوحيد والشرعي. وهم بذلك، طبعاً، ارتكبوا مخالفة دستورية ووطنية لا تقل أهمية في مجرى استمرار أبشع أنواع الممارسة وفي سياق أكثر الأنظمة رجعية وتخلفاً وخطراً!
يحصل ذلك رغم أن الدستور يطمئن سدنة الهيكل الطائفي، من خلال إقراره استحداث «مجلس شيوخ» يتعاطى الشؤون المصيرية (فقط!) كما تنص المادة 22 من الدستور. ويحصل ذلك رغم النتائج المتوقعة، وبعضها ظاهر للعيان بأبشع الصور والمخاطر، لاستمرار الانقسام المذهبي والطائفي، وتفاقمه وبلوغه الحدود القصوى من التطرف ومن الاستغلال في مشاريع صغيرة أو كبيرة، محلية أو إقليمية أو دولية.
لا نريد أن نذهب في المبالغة إلى حدّ تحميل القانون المزمع إقراره تبعات حصول التوترات والحروب وأسبابه، لكن لا يفعل إقراره، على الأقل، سوى إدارة الظهر للمعالجات المطلوبة ولو جزئياً أو تدريجياً أو مرحلياً.
وقد قدّم ممثلو اتجاهات ديموقراطية وتغييرية مقترحات ملموسة في هذا الصدد، وتشهد نقاشات اللجنة التي ألّفها مجلس الوزراء السابق والتي ترأسها الوزير السابق فؤاد بطرس، على مساهمات جدية عبر صيغ ومشاريع واقتراحات، من أجل إصلاح النظام الانتخابي الذي هو مدخل إجباري وأساسي لإصلاح مجمل النظام السياسي اللبناني. فهذا النظام الطائفي مريض ومتخلف، ومولد للانقسام وللشرذمة، ومضعف للوحدة الوطنية، ومغرٍ للتدخلات الخارجية أو مستدرج لها من أجل الحفاظ على توازنات أو من أجل تغيير هذه التوزانات.
يطرح هذا الأمر جملة قضايا أساسية على الصعيدين اللبناني والعربي عموماً: لم يعد ممكناً الفصل بين عناوين التحرير والتنمية والعدالة الاجتماعية والدمقرطة. هذا أمر يحتاج إلى الذهاب أبعد فأبعد في إكسابه لحماً ودماً، إذا كان لقوى التغيير والتحرير بكل مسمياتها، وبسبب خطورة الاستهداف الأميركي ـــ الصهيوني، لكل «الشرق الأوسط الكبير» «أياً كان حاكم البيت الأبيض»: جمهورياً أم ديموقراطياً، أحمل اسم باراك أوباما أم جون ماكاين، إذا كان لها أن تلعب دوراً في عملية الإنقاذ والنهوض والدفاع عن السيادة والثروات والحقوق والمصير.
* كاتب وسياسي لبناني