طراد حمادة *المشعر الأول يقوم على أنّ للفكر السياسي ميتافيزيقاه. ومفهوم السياسة عند قوم يختلف عن سواهم بقدر ارتباط هذه السياسة بأصلها الميتافيزيقي. ونحن نجد هذا الارتباط في أجلى صوره المعاصرة عند المفهوم الذي يعطيه الإمام الخميني للسياسة، باعتبارها سلوكاً في سياق سفر الخلق إلى الحق، كما يتجلى في الخلق، وهذا ما جعل كل أمر سياسي مرتبطاً بالأصل الديني، بحيث لا فصل بين الدين والسياسة. حتى ليمكن القول إن السياسة وفق هذا المنطوق هي فعل عبادة يؤديه المكلف، وباعتباره فعل عبادة، فقد أخرجه فاعله من فعل تحقيق الممكن، ولم تعد السياسة خاضعة لظروف الإمكان التي تتسع لحسابات الربح والخسارة ودراسة ميزان القوى، والنظر في بعدها المادي الدنيوي من دون الالتفات إلى غاية العبادة في مآلها الأخروي وتحقيق القرب من الحقّ تعالى. بل إن النظر إلى فعل السياسة كسفر في الحق عبر تجلياته في الخلق، يجعل الاهتمام بشؤون الخلق يحصل بتصرف العاشق الواصل الذي ينظر إلى عالم الخلق بعين الحق، فلا يلتفت إلا إلى رضى الحبيب الأزلي وطلب القرب منه والفناء فيه. المشعر الثاني: يقوم على مجموعة فضائل ترتبط بما نسمّيه المقدس اعتباراً، وتستمد عناصرها من فضائل شهر رمضان وفضيلة يوم الجمعة، وكذلك فضائل القدس والمسجد الأقصى والأرض المباركة من حوله، بحيث تشمل في ما تشمل حسب بعض الشروح كامل فلسطين وجزءاً من جنوب لبنان، والقدس «أولى القبلتين» و«حاضنة الأقصى» و«مدينة الإسراء» و«مسرى النبي» و«مدينة الطهر» و«تراث المسلمين»، وواحدة من أهم ثغور الجهاد في مجمل تاريخ المسلمين العام، بحيث لا يتسع المجال لذكر عموم هذه الفضائل التي يعرفها المسلمون ويتمسكون بها، وقد حظيت فضائلها في تاريخهم بعناية خاصة.
اذا أضيفت هذه المزايا والفضائل إلى ما تكون عليه الشخصية الإسلامية في شهر رمضان، من سمو الروح والتخلي والاستعداد للجهاد وحب الله سبحانه، وكره المشركين الظالمين والبراءة منهم، هذه البراءة التي أدرجها الإمام الخميني في مناسك عبادة الحجّ للدلالة على أهميتها... كما تكون الشخصية الإسلامية في شهر رمضان شديدة القابلية لعبادة تجمع الصوم إلى متطلّباته الاجتماعية، ومنها هذا السلوك في البراءة عن المشركين والظالمين والاستعداد لمقاومتهم، وعليه كان يوم القدس يوماً عالمياً للمستضعفين في ربط صريح المعاني. يقول الإمام الخميني «على المسلمين أن يعتبروا يوم القدس يوماً لجميع المسلمين، بل لجميع المستضعفين، إنه يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين، بل هي قضية كل الموحّدين والمؤمنين في العالم، السالفين منهم والمعاصرين واللاحقين».
حديث الإمام الخميني عن القدس فيه الوضوح في العبارة ورمز الإشارة وفي الإشارات والتنبيهات التي يستفاد منها ما ذكرناه في المشعر الأول ما جاء في أقوال الإمام الخميني: «من الضروروي إحياء يوم القدس المتزامن مع ليلة القدر من جانب المسلمين، ليكون بداية لصحوتهم ويقظتهم. ويوم القدس هو يوم الإسلام. يوم يجب أن يحيا فيه الإسلام. وإنما لما يليق بيوم القدس، وهو من أواخر شهر الله الأعظم وهو سعي كل مسلمي العالم للتخلص من قيود الأسر والعبودية للشياطين الكبار، والارتباط بقدرة الله الأزلية».
تأمّل كيف تساعد العبارة في الإشارة إلى التزامن مع ليلة القدر ويقظة الإسلام وحياة الإسلام، والارتباط بقدرة الله الأزلية، والربط بين الموحدين المؤمنين والمستضعفين في تاريخ قدسي يجمع الحاضر والماضي والمستقبل.
لا نحتاج في هذه الإشراقة إلى شرح مدلول هذه الأقوال المشهورة، بقدر ما نستعين بها لإظهار الجانب المعنوي والعبادي في إحياء يوم القدس، واستفادة الجواب عن الحكمة العالية في جعله في الجمعة الأخيرة من رمضان، ولماذا يرتعد الأعداء من هذا الإحياء، لأنه أمر يدخل القدس في زاد المسافر، وإذا دخلت في زاد المسافر، كان طريق تحريرها من فريضة الجهاد.
* وزير سابق