أنسي الحاجتَملَّكْ

سعي التملّك، عودة يجريها المرء إلى المناطق الجريحة من طفولته. ما يشفي من رغبة التملّك قد يكون التملُّك، ولكنْ أكثر منه إلقاء السلاح. ملء الخزّان برغبة الإسعاد، وممارسة «الإخلاص» بمعناه النوعي لا الاستئثاري: الإخلاص لاستمتاع الشريك.
قيل إن الإحساس بكون التملّك وهماً، يشفي منه... وماذا نفعل بالكائنات التي تُمْلَك فعلاً؟ ليست وهماً. والشعور بوهميّة الأشياء لا يشفي منها بل يضاعف الهَوَس بامتلاكها. امتلكْ، إذا أردت، لتبلغَ حدودك.
ـــ وهل تَقْنَع بأن تكون حدود رغبتك هي حجم الفريسة الواحدة؟
ـــ ما دام المفترِس منهمكاً في الفريسة الواحدة فهي ليست واحدة، بل كلُّ ما يملأ عينيه. وما لم ينتهِ من التهامها فمعناه أنّها لا تزال تملأ عينيه.
ـــ وكيف تتسلّط فريسة هكذا على مفترِس؟
ـــ بمطابقة استيهاماته واستمرار تصاعد المطابقة في سباقٍ تسبقه فيه دون أن يبدو عليها أثرٌ لجهد...
ـــ وهل هو سباق؟ وما اللذّة في هذا السباق!؟
ـــ قد يتراءى هكذا لمَن ينظر إليه من خارجه، ولكنّه تَناغمٌ قَدَريّ. لا أعرف إذا كان لكلٍ نصيبه، وإن لم يكن فبئس الحياة.
ـــ لنعد إلى «الفريسة» التي أخَذْتَها مثلاً، ما صفاتها؟
ـــ بعض صفاتها المفاجأة. امرأة غير متوقَّعة ولكنْ بلا ضوضاء المفاجأة بل بكامل خَفَر الهمس. امرأة مهداة إهداءً، تُطلُّ جديدة في كل تكرار لها، وسلاستها سلاسة الحصول في الخيال.
ـــ وأيضاً؟
ـــ لا تضعُ شيئاً فوق اللعب، ولا شيء فوق سرعة استهلاك الملعوب معه إلاّ الشوق إلى إبداله. منتهكة التقاليد بسكون النائمة، البائحة بمجونها كما يفوح الورد بأريجه، المغلّفة جموحها بالحَذَر والسذاجة كما يُغلّف البحرُ وجهه بالجليد.
ـــ وأيضاً وأيضاً؟
ـــ العارية المفعمة بالظلال، ظلال روح لا حدود لها وجسدٍ يكره الأسْر ولو في الحبّ، وإن أحبَّت فكما يُحبّ عصفورٌ البلادَ التي يَعْبرها.
ـــ أهذا كلّ حبّها!؟
ـــ هذا كلُّ ما تَسْمح له بالظهور، وقد لا تأذن حتّى بهذا، فعليكَ أنت أن تسمع ما لا يُقال وأن تَشعر بما يُرْفَض له خطرُ التعرُّض لابتذال القول...
ـــ وكيف تكون على هذه الفتنة وهي بهذا التفلُّت من الأسر؟
ـــ جزء من أسباب فتنتها العجز عن القبض عليها قبض الأسر. يُقْبَض عليها في ما له علاقة بالمتعة. قَبْضُ الأسْر قَتْلٌ للمتعة. ما تريده أنت هو أن تقع في حدود توقّعك، وقد حذّرتك أنّها امرأة غير متوقَّعة، يرتوي جسدها ولا ترتوي روحها، فيعود الجسد من ارتوائه وكأنّه نسي ولائمه السابقة، وفي لحظة يسترجع براءة الولادة.
ـــ وغير هذا؟
ـــ ينطلق جسدها من ذهنها كما كان الرجل يظنّ أنه وحده يفعل. امرأة تُعلّمك معرفتُها أن المرأة وحدها تملك فنون الجسد، تعرف أن تَعْشق دون أَغلال وأن ترفع المسافات دون محوها. امرأة هي الشعر على قيد الحياة، هي شهرزاد دون الفصول المملّة، دون شهريار واحدٍ بل بألف ألف رجلٍ لم يعد أحد منهم سلطاناً، بل صيَّرتهم كلّهم، دون أن يبدو عليها، بل دون أن تُصدّق نفسها، جمهوراً لحكاياتها بقدر ما هُم أو ما كانوا شركاء في لعبتها، شركاء ظنّوا أنفسهم سحابة وقتٍ أنهم دخلوا إلى حياتها دخول الفاتحين وسيقيمون فيها إقامة المالكين، وإذا بهم يدركون، أو لا يدركون غالباً، أنّهم كانوا مجرّد تجسيدات لرؤى يجيش بها رأس هذه المرأة الرائعة، تجسيدات ستتراكم فوق تجسيدات، فوق تجسيدات، إلى ما شاءت رغبةُ، تلك المَلِكة التي سوف تظلّ عذراء.

ما ينقص الطبيعة

تخيّل العاصفة بعينين. الرعد، الهواء، الجبل الهائل، موطن الأرواح. لا ينقص الطبيعة إلاّ العيون، عيون نستطيع أن نراها نحن أيضاً ولا نستسلم إلى رؤيتها هي وحدها لنا.

خذلان

الكاتب الموحي الثقة للقارئ يستطيع أن يأخذه حيث يريد شرط عدم الخذلان، من هذا الطرف أو ذاك. ولكنْ إنْ لم يحصل الخذلان فمعناه أن العقد مريب والطرفين لا بدّ.
الخذلان هو الذروة (أو القاع) في هذه العلاقة التي، أبعد من الأدب، ترمز إلى كلّ علاقة بين سلب وإيجاب، بين أب وابن، بين معترفٍ وكاهن.
حيث يُخْذَل أحدهما، قد يكون هنالك الموضوع.

حرّيتي ليست حرّيتك

حرّيتي ليست حرّيتك، وأنت تفيد من حرّيتي وأنا من حرّيتك على قَدْر «رتبتنا» وأهليّتنا. الحرّ يبقي فكرة الحريّة متّقدة وليس من مهماته أن يكون قدوة تطبيقيّة حرفيّاً وواقعيّاً. القدوة يجب أن تظلّ مثاليّة وتُطَبَّق عندما تتوافر الشروط اللازمة لإقدام حُرّ جديد على اجتراح عمل جديد يوسّع به حدود الحريّة ويُعيد إذكاء جذوة الحلم. الآخرون، الجُموع، يَتغذّون بما تستطيعه هياكلهم كلٌّ على حسب لياقته، دونما ترخيص.
الحريّة تراتبيّة، قلناها أو أضمرناها أو جهلناها. إطاحة هذه الحقيقة أوصلت البشريّة إلى حالها الراهنة: توهُّم الجماعات والأفراد أنّ لهم الحقّ بالتساوي في كلّ شيء، فيما هذا كان هو الفخّ الذي أوقعتهم فيه نخبة مفسدة، من أجل إحكام سيطرتها على المجتمعات واستغلالها قطعاناً مجنونة بعدما كانت تستغلها قطعاناً مُسْلِسة القياد.

سقوط الضحك

من غرائب الأمور أن يتهافت الثقلاء على مصادرة منابر النكتة. إذا استثنينا قلّة خارقة، معظم أهل البرامج التنكيتيّة أينما كان، لا في لبنان وحده، ثقلاء. وليس من اليوم بل من الأمس البعيد. وفي السينما أيضاً، ما عدا بضعة، على رأسهم الإخوة ماركس ولوي دو فونيس (لا علاقة لظرف الأخير بنكاته بل بشخصيته، فهو يُفَرْقع بمجرد أن يَظْهر. لغته اختناق يُحرِّر من الاختناق، وضيْق صدره يَشْرح الصَدْر).
كلّما عبّرت عن هذه المفارقة أمام أحد أجابك: «طبيعي، الشيء يجتذب ضدّه». لم أفهم لماذا طبيعي، إلاّ أن يكون الواحد منّا على استعداد دائم لتبيان ذكائه بإنكار دهشته. وهذه غلاظة اتباعيّة من نوع آخر.
ظرفاء تقوم موهبتهم على الوقاحة. وقاحة عدم الخجل، أولاً، تتبعها وقاحة تسويق السماجة على أساس أنّها موهبة من السماء. فضلاً عن وقاحة ممارسة الإرهاب الصوتي والجسدي لإقناعك بأنك منفرج فيما أنتَ مروَّع. والحقيقة أن بين محترِف الهضامة ومحترِف القمع قُرْبى روحيّة، فكلاهما يعتبر جمهوره حفنة مساطيل، فضلاً عن أن قلّة الذوق شريان مشترك بين جميع أهل الاغتصاب.
الأرجح أن سبب استمرار هذه الظواهر بلا عقاب رادع هو عطْل في الجمهور يؤهّله للتجانس مع حكّامه ومهضوميه. فلو لم يكن الجمهور ثقيلاً لما استهضم الثقلاء. وغالباً ما يكون الجمهور أثقل من مُنَكّتيه.
لكن الناس مساكين. لو أُعطوا أفضل لصفّقوا للأفضل، كما يقال لتبرير شعبيّة ما، شرط أن لا يبتعد الأفضل مسافة كبيرة جدّاً عن غرائزهم. حينذاك لا يُلامون إذا استثقلوه، مع أنه قد يكون عظيماً. هنا ندخل في تفاصيل حول الحدود الفاصلة بين الجاذبيّة والأهميّة، بين الحسْن والعبقريّة، بين اللطيف والخطير. حديث مملّ لا يدخل في كلمة ضدّ الثقلاء.
كلٌّ منّا ثقيل في وقتٍ ما. والزمن ثقيل علينا في أوقاتٍ ما. والإشارات واللافتات غالباً ما تدلّ إلى نقيضها. والضحكة أنواع، معظمها يوتّر الأعصاب، وأجملها ضحكُ صَبيّةٍ يُفَكّك أزرار الليل.


اركـــضي
يا مَن تُفكّر في الركض
اركضي ولا تسألي
ولا تعرفيني
اركضي
حرّةً أو مشغولة
مرتاحةً أو حزينة.
أنا أرضُ قدميكِ
ويدٌ لا ترينها وتَفْتَحُ لكِ الأبواب.
يا مَن تفكّر في حالها
فكّري.
عشب القُرى يُحبّكِ
الأرض تحت قدميكِ تحبّكِ،
ولن تشعري.
فماذا يكون الحبّ إنْ لم يكن
أَن تأخذي ولا تعرفي
مَن يُعطيكِ...