من برجا إلى بعبدا ثم بيروت. طفل «عفريت» اكتفى بخيط رفيع من الضوء يتسرّب إلى عينيه شبه المنطفئتين، وبكثير من الإرادة والتصميم، ليعيش كفرد عادي: شغل بدل الوظيفة اثنتين. كوّن أسرة. وقطع المشوار يمسك بيده بدل العصا كماناً تقوده ألحانه..
رنا حايك
في بلدة برجا، كان طفل يجمع علب التنك القديمة، يخرم طرفيها، يثبّت بهما خيطاً ويلهو وهو ينقر الوتر فيتناهى منه صوت يداعب أذنيه ليعوّض «السّماعي» عن غياب البصر.
غياب البصر كلّف ذلك الطفل نصيباً لا بأس به من مساطر أساتذة مدرسة البلدة عام 1968. فقد عجزوا، كما يشرح أحمد شبو «عن تخصيصي بمعاملة خاصة، نتيجة قلة وعيهم». لم يكن شبو ضريراً بالكامل عند ولادته عام 1961. التقطت عيناه ملامح المشاهد المحيطة به، التقطت حدود الأشياء وألوانها الزاهية التي ما لبثت أن خفتت مع مرور الزمن. ما المشهد الذي كنت تتمنّى لو أنك مبصر لتراه؟
لا يتردد شبو في الإجابة: «البصر نعمة. لكنني اعتدت ألا أرى لدرجة نسيت معها أنه يجب أن أرى». ثم يردف: «يمكن هيك أحسن. ويمكن لو شفت إتضايق».
لا يأتي هذا الاستنتاج من فراغ. فالحكمة التي ينضح بها هذا الموقف جاءت نتاج سنوات طويلة من الخبرة الحياتية التي لم يتذرّع شبو بفقدان البصر لعدم خوض غمارها.
لم ينصع الوالد لحديث الأطباء الذين وعدوه بأن يتحسن نظر ابنه مع الوقت. سأل ذلك الحارس الليلي في بلدية بيروت أهل العاصمة من أصدقائه عن مدرسة متخصصة يودع ابنه فيها، فدلّوه على «معهد الضرير اللبناني» في بعبدا. تأقلم الولد هناك بعد ليال طويلة من البكاء. فرغم أنه انتزع من بيئته القروية والعائلية، إلا أن وجوده وسط أطفال في مثل ظروفه أراحه. وحين سأله الأستاذ عن نوع الآلة الموسيقية التي يريد تعلّم العزف عليها، أجابه: المنجيرة!
لكن المنجيرة لم تكن مدرجة على لائحة الخيارات في المعهد. وبين العود والكمان، اختار شبو الآلة الثانية ليبدأ مشواراً طويلاً مع الموسيقى، اقتصر النشاز فيها على أصوات الرصاص الذي عرف طريقه إلى المعهد عام 1976.
يومها، خاف الأهل، فاستعادوا ابنهم واصطحبوه معهم إلى برجا. انقطع في الكمان وتران، حالت الحرب دون إصلاحهما لمدة عامين، قطعت خلالهما الحرب الطاحنة أواصر الوطن.
لكن ما إن وجد شبو منفذاً إلى العاصمة حتى أخرج كمانه من الخزانة وقصد أستاذه في بيروت لإصلاحه.
في بيروت الدامية عام 1979، عمل شبو في «الغرفة المظلمة» على تظهير صور الأشعة التي يخضع لها مصابو الحرب في مستشفى البربير.
على سؤال «ما المشهد الذي كنت تتمنّى لو أنك مبصر لتراه؟»، يضاف هنا سؤال آخر يفرض نفسه: «ما هو المشهد الذي اختزنته ذاكرتك قبل فقدان البصر الكلّي؟».
هنا يتحدّث شبو عن ذاكرة بصرية ممزوجة بالأحمر القاني: «صور الأجساد المقطّعة هي آخر ما أذكر من عالم المبصرين».
لم يدم العمل في البربير طويلاً، فقد التحق شبّو بالعمل إلى جانب حبّ حياته، زوجته الحالية الضريرة هي الأخرى، في سنترال مصرف لبنان.
تشاركه لينا الإصرار والاجتهاد ورفض «النق». تشاركه حياة أثمرت، بعد سنوات طويلة من الانتظار والعلاج، طفلاً مبصراً يبلغ اليوم أعوامه الستة. لم يعارض الأهالي الزواج لأن بصر لينا لم يكن منطفئاً تماماً حين تزوجا عام 1986. فقد فقدت النظر تدريجياً بعد إصابتها بالمياه الزرقاء والضغط، وبسبب عدم توافر الأدوية المناسبة لعلاجها أثناء الحرب.
لكن النظر القليل الذي بقي للينا أتاح لها تغيير رأيها بالشاب الأنيق الذي يحمل كمنجة، فأحبّته بعد طول كره (راجع الكادر). قسّم شبّو أوقاته بين الوظيفة الرسمية نهاراً والعزف والتلحين ليلاً.
أول لحن عزفه على المسرح كان معزوفة «هدية العيد» لمحمد عبد الوهاب الذي أصبح من أحب الملحنين إلى قلبه. هو والسنباطي والقصبجي وآخرون عرّفه إلى تراثهم الموسيقي المايسترو سليم سحّاب. يسمّيه «أستاذي». يقول إنه هو الذي «عرّفني على موسيقاي». ويذكر أيضاً كيف ضحكا مطولاً، معاً، على كلام قاس نشره «قائد أوركسترا» لبناني ومدير معهد موسيقي في الصحف، قارب حدود العنصرية والتجريح. فقد سخر يومها الرجل من منافسه سحاب، قائد فرقة بيروت للموسيقى، كيف «يشوبر بيديه لفرقة فيها كمنجاتي أعمى!».
كان يمكن لهذا الكلام أن يكون مفصلاً مقوّضاً لطموح شبو لو لم يكن يتحلّى هذا «الكمنجاتي» بعزم وقوة جعلاه يتخطى إعاقته في جميع المحكّات، ويرى كلام غلمية «سخيفاً». عزف شبو خلال مشواره الطويل مع الكثير من الفنانين، منهم القدامى كوديع الصافي، والجدد الموجودون اليوم على الساحة الفنية.
«مصيبة الموسيقي إنو متل شوفير التاكسي»، يقول. يوضح تشبيهه قائلاً: «معظم اللي طلعوا معي بالتاكسي، قالوا يسلمو ونزلو وما عدت عرفت عنهم شي». فالعازف هو رقم في الفرقة بالنسبة للمطربين. يستبدل بحسب الظروف ولا يتلقى نصيبه المشروع من العرفان.
أما الملحن، فمصيبته أكبر: لأن «المافيا الفنية» لا تقبل بالموهبة إلا إذا اقترنت باسم لامع. هذا الواقع، جعل أكثر من ثلاثين لحناً ألّفها شبو تنتشر في العالم العربي باسم ملحنين آخرين. ورغم أنه يتقاضى ثمناً معقولاً عنها، إلا أن حقه المهضوم على مستوى الملكية الفكرية جعله يمتنع منذ فترة عن تأليف ألحان وبيعها لملحنين مشهورين يعرفون طريقهم إلى «صالونات» فنانين «ما بيقبلوا يستقبلوني وهن مش خرج حطهن شوفيرييّ عندي» كما يصفهم.
لذلك، هو يحضّر حالياً لإنتاج ألبوم يحوي ألحانه على نفقته الخاصة. سوف يطبعه في الاستديو الخاص الذي يمتلكه في منزله ويوزعه شخصياً على شركات التوزيع. مغامرة جديدة للإنسان الطموح الذي لا يكلّ ولا يتعب.
فهو مستاء جداً من وضع الفن حالياً، يجد أنه «في أزمة تعبّر عن الأزمة العامة التي يتخبّط فيها العالم العربي». والحق في ذلك ليس على الجمهور لأنه «عاوز كده» بل على المنتجين والمتحكمين بالسوق الذين عوّدوا هذا الجمهور على الاستماع إلى الأغاني الهابطة وأصوات المغنين الخالية من أية قيمة جمالية.
يجاهد أحمد شبو ليعيش حياة عادية. يتعايش مع إعاقته ويتجاوزها، فيتقن التعامل مع الكمبيوتر، ويعشق الاستماع إلى الراديو، وخصوصاً إلى البرامج التي تتناول التكنولوجيا. البرنامج الناطق الذي حمّله على هاتفه الخلوي والكمبيوتر النقال اللذين يمتلكهما أتاح له اللّحاق بركب التطوّر التكنولوجي، الذي لم يلحقه الكثير من المبصرين.
قام بكل ذلك بسلاسة إنسان يبذل المجهود ليمارس حياته بشكل عادي، دون أن يرى نفسه بطلاً خارقاً، أو أن يكون الدافع وراء اجتهاده عصاب عقدة نفسية تتعامل مع الإعاقة بكيديّة.


«ما محبة إلا بعد عداوة»

«ما كنت طيقو»، تقول لينا ويشاركها أحمد الضحك. ينسّقان بينهما معزوفة الذكريات دون أن يدوس أحدهما على لحن الآخر. «ينغّم بعضهما للآخر». «كان يفركشني بالملعب»، تقول. تشرح كيف تبدّل تماماً خلال السنتين اللتين فرقتهما خلالهما الحرب. يومها «رأيت شاباً أنيقاً بيده كمان، فانقلبت الموازين». يردّ أحمد عليها ضاحكاً: «وصارت هي تلحقني».