يستشهد الصديق رياض بعنوان فيلم عربي من السبعينيات: «عذراء...ولكن». والعنوانُ طريفٌ، إذ إنه يتضمّن جملةً من الاحتمالات البراغماتيّة المفتوحة أمام السيّدة في الفيلم. ودبلوماسية النظام في سوريا على مرّ العقد الماضي يمكنُ وصفُها بـ: ممانعة... ولكن. أي إن النظامَ منفتحٌ على جملة من الاحتمالات البراغماتيّة السياسيّة، رغم عنوان الممانعة المائع والمُلتبِس
أسعد أبو خليل*
تعتبر سياسة المُمانعة واحدة من عناوين مختلفة حَكَمت الإعلان السوري الرسمي عن موقف دمشق من الصراع مع إسرائيل، كما حكمت حقبة انتظار الشروط الأفضل للإذعان. لو بدأنا بحقبة صلاح جديد، لقلنا إن الرجل الزاهد آمن فعلاً بنظريّة حرب التحرير الشعبيّة. ولكن سياسة النظام آنذاك كانت محكومة بالصراعات المتفجّرة داخل البعث أو عرضة لها (بين الجناحيْن وفي داخل كل جناح على حدة). كتب كثيرون عن تلك الحقبة: سامي الجندي كان أكثرهم بلاغة (وكآبةً). كان كتابُه عن البعث ورقة نعي لحزب وعد بالوحدة العربيّة والتحرير وانتهى بالشرذمة والطائفيّة والأراضي المحتلّة، وإن اجترح من وسائل التعذيب ما نال إعجاب... أميركا في حربها على «الإرهاب». لكن ما كُتب عن صلاح جديد، هذا الرجل الغريب الأطوار، يوحي بأنه كان فعلاً صادقاً في انتهاجه خط حرب التحرير الشعبيّة وفي سياسة تسليح المنظمات الفلسطينيّة. وكان هذا الأمر أساسياً في الصراع المحتدم منذ البداية بين جديد وحافظ الأسد. الأسد كان يرى أن الأولويّة هي لبقاء النظام، بينما كان صلاح جديد يسعى إلى تطبيق نظريّة حرب التحرير الشعبيّة. كان جديد في نظر الأسد متهوّراً، والأسد كان حذراً ومتمهّلاً يقيسُ بميزان بيض النمل، على ما قال لينين. صحيح أن مزايدة نظام البعث في سوريا ومزايدة النظام الأردني (ما سمّاه الكاتب فيصل حوراني في مذكّراته الشيّقة «الجري نحو الهزيمة») دفعتا بنظام عبد الناصر دفعاً إلى مواجهة لم يكن يريدها ولم يكن مستعداً لها، وإن كان مسؤولاً عن تبعاتها عند اشتعال الحرب وانفضاح التقصير.
بعد الهزيمة تغيّر صلاح جديد وتغيّر ميزان القوى في الشام. ما عاد جديد يمثّل مركز الثقل في النظام، وقد يكون اقتنع بوجهة نظر الأسد في حماية النظام، كأولويّة تتقدّم على كل ما عداها، حتى ولو كانت متضمّنة في شعارات الحزب الحاكم وبرامجه، أي إن الحزب انتهج مبدأ: البعث (بشعاراتِه)... ولكن. وفي هذا السياق من تغيّر ميزان القوى في داخل النظام بالذات، قُبض على جورج حبش، وعلى عدد من المقاومين الفلسطينيّين. لكن المواجهة الكبرى بين جناح الأسد وجناح جديد تفاقمت أثناء مجازر أيلول في الأردن. يقول مؤيّدو جناح جديد إن جناح الأسد لم يكن يودّ أن يتدخل دفاعاً عن المقاومة الفلسطينيّة (ورفضَ إعطاء غطاء جوّي). طبعاً، نفى حافظ الأسد ذلك في سيرته (شبه) الرسميّة التي كتبها باتريك سيل والتي مثّلت خير تمثيل وجهة نظر الأسد، كما مثلت سيرة خالد بن سلطان، التي كتبها باتريك سيل أيضاً، خير تمثيل وجهة نظر خالد بن سلطان. ما علينا. ربح الأسد المعركة... ضد صلاح جديد، وانزوى الأخير صامتاً مهزوماً في زنزانة انفراديّة، إلى أن أُطلق سراحه قبل وفاته بقليل.
لم تكن سياسة النظام السوري في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي في الخانة نفسها للمنظمة التي رعت ولادة جبهة القوى الفلسطينيّة الرافضة للحلول الاستسلاميّة (أو جبهة الرفض، إيجازاً)، كما أن النظام لم يكن آنذاك في صفّ النظام المصري (المدعوم سرّاً على ما نعلم اليوم من النظام السعودي) الذي كان يهرع لإتمام صفقة مع إسرائيل وأميركا. بقي النظامُ في منزلة بين المنزلتيْن، على ما يقول المعتزلة. لا كان يقول برفضِ القراراتِ الدوليّة التي وافقَ عليها، مُكْرَهاً (لا بطلاً) في نظرِه هو، ولا كان يقبل بالرفض القاطع الذي مثّله جورج حبش ورفاقه. وكان النظام السوري يقبلُ بنظريّة وضع الأوراق في سلّة أميركا إذا كان ملفّ الجولان موضع مفاوضات. وكان حافظ الأسد يفاوضُ كيسنجر بتأنٍّ شديد، لكنّه لم يكن معارضاً في المبدأ لصفقة مع كيسنجر إذا كانت في مصلحة النظام ومؤاتية لخطاب تحرير الأراضي المحتلّة.
الشعارات تغيّرت عبر السنوات، وبعض من حَكَم مات سجيناً أو قهراً، وبعضه انتقل إلى باريس ليعد الشعب السوري بهجمة سعوديّة على الشام. أما الشعارات فنتذكّرها واحداً واحداً. نتذكّر ذلك الشعار الشهير الذي ينمّ عن غباء مطلق: إن النظام هو الذي يحدّدُ زمانَ المعركة ومكانها، وإن لم يحدِّدْها لعقود بالرغم مع أن الأرضَ ما زالت محتلّة، لا بل زادَ احتلالُها احتلالاً. وتكيّفَ النظامُ مع التغيّرات الإقليميّة التي وجدته في خندق واحد مع القوات الأميركية (أو القوات الصديقة كما سمّتها وسائل إعلام آل سعود آنذاك) في حرب «تحرير الكويت». والصفقة التي رَتّبت أمر الانضواء السوري الرمزي في قوات «التحرير» الأميركية تضمّنت في ما تضمّنت، صفقة تلزيم لبنان للنظام السوري (بمشاركة من كان حسين الحسيني يكنيه بـ«الشخص»)، إضافة إلى وعود ضبابيّة عن مفاوضات في مدريد ثم في واشنطن. لم تُثمر المفاوضات لأن «الراعي الأميركي» (وهو غير الراعي الصالح) يرى أن ما ترتئيه دولة إسرائيل هو الصواب عينه. لكن التفاهم الأميركي مع سوريا أدى إلى تغيير ملحوظ في الشعارات.

في تلوّنات الدبلوماسيّة السوريّة



لم يعد شعار تحديد زمان المعركة («زمان يا حب») ومكانها ملائماً. طُوي كلام المعارك إلى غير رجعة في لغة النظام العربي الرسمي. وهم لا يتعاركون (كالديوك) إلا في ما بينهم، أما مع إسرائيل فهم متحابّون ومُتجانسون ومُتفاهمون ومُتوائمون، ولسبب من الأسباب هم مُتحمّسون لتسيفي ليفني، وإعلام آل سعود وصحيفة «تشرين «يكيلان المدائح لها، خرّيجة فرق اغتيال الموساد. أي إن للأنظمة العربية مرشحها الخاص في دولة العدو. الشعار السوري الرسمي تحوّل من انتظار تحديد زمان المعركة ومكانها بناءً على رؤية ثاقبة لهلال الصراع مع إسرائيل في ليلة مُقمِرة، إلى المناداة بتحقيق التوازن الاستراتيجي الذي لم يتحقق، والذي لم تسعَ الأنظمة العربية إلى تحقيقه أصلاً لانشغالها بتحقيق ما هو أهم: ديمومة النظام وتهيئة الخلافة داخل العائلة. وحزب البعث (في شقّيْه السوري والعراقي) كان بارعاً في استنباط شعارات لا علاقة لها بالواقع المعيش أو حتى بأهداف النظام الحقيقيّة. في حقبة السبعينيات وما أعقب زيارة السادات المشؤومة للقدس المُحتلّة، تفتقت القريحة البعثيّة عن شعار: الصمود والتصدّي. والشعار أقل هيبة ممّا يوحي، لا بل إنه تطيميني إزاء العدو الإسرائيلي. أي إنه لم يعد أكثر من... الصمود والتصدّي. أي إن الشعار يعدُ الجماهير بأن الحاكمَ باقٍ على الكرسي وفوق صدورِهم, يحكمُهُم بنعالِه. الصمود لم يكن يعني أكثر من عدم اللحاق بالسادات إلى القدس حتى إشعار آخر، وفي انتظار شروط أفضل للمقايضة. أما التصدي، فكان إشارة بعثيّة معهودة إلى علك الكلام ومضغه جيّداً، قبل تهيئته للاجترار، مثنى وثلاثاً ورباعاً، من المذياع ومن أي وسيلة إعلاميّة تصل إليها يد النظام. والتصدّي يكون بالشعارات والأشعار البعثيّة، على وزن «يا فلسطين جينالك».
النظام العراقي تحت قيادة صدام كان مزايداً على المزايدين في الشعارات. لكنّه في الثمانينيات أرسل نزار حمدون إلى واشنطن، وبسرعة البرق اقترب وتقرّب الأخير من رموز الصهيونيّة في العاصمة الأميركيّة. أما النظام الليبي فكان يصدح بالسرّ ويُطمئِن بالهمس. من هنا يجب فهم شعار المُمانعة: يوحي بأن الجميع رضخ ما عداه. ورغم ذلك، فإن طلاق النظام السوري مع أميركا (لا مع إسرائيل) كان من جانب واحد، أي الجانب الأميركي. فقد ارتأى بوش في لحظة اغترار بالقوة أنه يستطيع تشديد الخناق على النظام السوري. إذ إنه كان يعتقد أن نزهة الحرب في العراق ستنتهي في أسبوع على الأرجح، وأن القوات الأميركيّة ستتمدّد بسهولة ورشاقة جنوباً وشرقاً وصعوداً. لم يكن له ما أراد. تزايدت المطالب الأميركيّة وحاولت سوريا أن تتجاوبَ، وخصوصاً في عون الحرب الأميركيّة على الإرهاب (وعوْن الأنظمة العربيّة يتجلّى أكثر ما يتجلّى في خبرات عريقة في التعذيب والتنكيل وكهربة الأعضاء التناسليّة). والحكومة السوريّة، مثلها مثل كل الحكومات العربيّة، تعلم أن الحكومة الأميركيّة تقدّر المزايا والفضائل التي تتمتّع بها أجهزة الاستخبارات العربيّة، وخصوصاً في انتزاع ما ترغب (الحكومة الأميركيّة) فيه من الاعترافات. تستطيع بعد نصف ساعة من «الاستجواب» في أقبية تعذيب الاستخبارات العربيّة أن تجعلَ الإنسان يُقرّ بأنه فعلاً دجاجة، إذا احتجتَ إلى ذلك. والسفير السوري في واشنطن في حيْرة: لا يفهم لماذا تتجاهل الحكومة الأميركيّة عروض الضيافة المستمرّة من الاستخبارات السورية لمن تختاره واشنطن من المساجين.
وعنوان المُمانعة جاء ليسدَّ فراغاً إيديولوجياً في خطاب البعث. لم يعد جائزاً الحديث عن المعركة وعن التحرير. زالت تلك الشعارات. بشار الأسد في القمة العربية الأخيرة (التي تعاملت وسائل الإعلام السورية مع مجرّد انعقادها على أساس أنها الفتحُ المُبين عينه) تحدّث للمرّة الأولى عن «عودة ـــ لا تحرير ـــ الأراضي المحتلة»، وكأن الجولان السوري خرج ولم يعدْ، وأنه سيعود وحده ومن تلقائه. وهذا الخطاب مثل خطاب الحكومة اللبنانية عن «استرجاع» مزارع شبعا: وكأن المزارع في حالة استعارة من جار فريد مكاري. والمصطلحات تهدف إلى تطمين إسرائيل إلى عدم وجود نيّات عدوانيّة أو حتى تحريريّة لدى الحكومتيْن. ويتحاشى الحزب الحاكم في سوريا المصطلحات القديمة عن الصمود والتصدّي وعن انتظار زمان المعركة ومكانها وعن التوازن الاستراتيجي. حتى عندما تضرب إسرائيل في قلب سوريا، يمنةً ويسرة، فإن النظام يسارع للتطمين إلى أنه يحتفظ بحق الردّ في «الزمان والمكان المُناسبين»، وفقاً لتصريحات فاروق الشرع. وقد يكون المكان المُناسب في بلاد البلجيك، مثلاً. لا ندري. يا لدهاء الخطط البعثيّة في الردّ الحاسم والحازم على العدوّ.
ولكن عنوان المُمانعة يحتاج إلى تشريح. المُمانعة لا تعني أبداً أن الحكومة السورية مثلاً تمانع الإدارةَ الأميركيّة المُنحازة لما يُسمّى اعتباطاً بـ«مسيرة السلام» التي يمشي فيها الهُوينا صائب عريقات، المُسترشِد دوماً بـ«رؤية بوش». على العكس من ذلك. فإن الحكومة السوريّة تصرّ على إدخال الحكومة الأميركيّة في كل مفاوضاتِها مع إسرائيل، لظنّها (أو لجهلها) أن أميركا محايدة في الصراع بين العرب وإسرائيل. الممانعة جاءت لا بناءً ـــ كما تروّج وسائل إعلام النظام وأصدقائه المعدودين ـــ على المطابقة أو المواءمة مع أسلوب المقاومة ضد إسرائيل. لا، إن سياسة الممانعة تعبير عن إفلاس كل شعارات النظام السابقة عن التحرير وعن التوازن الاستراتيجي وحتى عن الانتظار المائع لتحديد زمان المعركة ومكانها. لم يبقَ في خزائن حزب البعث من الأدبيات السياسيّة غير هذا الشعار، وهو نسق ضعيف ومُتهافت من سياق الانصياع الذي تتبعه الأنظمة العربيّة مجتمعة. بكلام آخر، المُمانعة نقيض للمقاومة.
وليس أبلغ لشرح مكنونات شعار المُمانعة، مثل الموافقة السورية الحماسيّة على مبادرة توماس فريدمان التي تبنّاها بحذافيرها الملك السعودي بعدما أدخل إليها مروان المعشّر تعديلات لطمأنة دولة العدو الإسرائيلي، كما روى هو في كتابه المملّ عن «الوسطيّة العربية» (والوسطيّة العربيّة هي غير هزّ الوسط في الملاهي). ولا تختلف سوريا مع الأنظمة العربيّة المطواعة في استجداء اهتمام إسرائيلي بمشروع الاستسلام الشامل الذي يستلهم روح أنور السادات. وهذا ما عناه سليم الحص، على الأرجح، في بيانه الجريء في نقدِ المفاوضات السوريّة ـــ الإسرائيليّة الجارية لخدمة رئيس وزراء إسرائيلي منبوذ، ولا طاقة له ولا رغبة في الانسحاب من الجولان، وكأن هذا هو الملف الباقي من الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، وكأن فلسطين باتت شأناً دحلانياً.
والمفاوضات بين سوريا وإسرائيل خير تعبير عن سياسة المُمانعة، مثل الجولة الذليلة للوفد الثلاثي السوري (الثلاثي غير المرح) على المنتديات الصهيونيّة في أميركا، طمعاً باهتمام من دولة العدو. يحاول النظام في سوريا أن يقنعَ إسرائيل بأن الانسحاب من الجولان هو كل ما يعني النظام البعثي. تبخّرت كل الأدبيّات البعثية التي كانت تعد بتحرير فلسطين، إضافة إلى اللواء السليب. النظام في سوريا يكاد أن يعترف باستداراته وتدويراته وحركاته البهلوانيّة في الصراع مع إسرائيل. يريد أن يعد العدو بـ«كل ما في المخزن» ـــ على ما يقول مثل أجنبي ـــ مقابل... انسحاب من الجولان؟ النظام لم يجد حرجاً، مثله مثل النظام في السعوديّة، في تقديم عرض بـ«التطبيع الكامل مع إسرائيل» مقابل الانسحاب من بعض الأراضي. وعندما تعد أنظمتُنا غير المُحترمة العدوَّ بالتطبيع، هل تتحدث بالنيابة عن شعوبِها؟ التطبيع ليس قراراً ولا مرسوماً ولا فرماناً من باب السلطان. إنه حالة نفسيّة للشعب العربي الذي لن تقولبه اتفاقات السلام المتكرّرة. ننظر إلى شعبي الأردن ومصر فنرى رفضاً شعبياً قاطعاً لأي تعامل مع ممثل دولة العدو. وكأن الشعب العربي يحفظ عن ظهر قلب قصيدة أمل دنقل «لا تصالح». لن يأتي التطبيع الكامل مهما أغدقوا على إسرائيل من وعود لإثبات حسن النيّة (السيّئة النيّة). ومن أعطى أنظمة التسلّط العربية صكوك ثقة من الناس كي تفاوض العدوَّ على تقديم تطبيع شامل وكامل معه؟
أما الجولة الثلاثيّة السوريّة في واشنطن فتدخل في صلب «المُمانعة...ولكن». أي إن النظام في سوريا يحاول أن يستجدي، مثله مثل أي نظام عربي آخر، اهتماماً صهيونيّاً به وبقضاياه. حاول أن يدخل واشنطن من باب اللوبي الصهيوني، كما فعل من قبلِه ياسر عرفات وأنور السادات. جال الوفد الضاحك والمُضحك من منتدى صهيوني إلى آخر. تعامل مع أميركا مثلما تعامل عرفات: كأن الحاجز بين القضايا العربيّة والفهم الأميركي لها ما هو إلا نتاج سوء تفاهم يستطيع رجل قدير أن يزيله في جلسة واحدة في معهد صابان الذي يديره مارتن أندك. إنها عقدة بعض المتعلّمين (والمتعلّمات) العرب عندما يحاولون جاهدين إقناع الرجل الأبيض بأنهم عقلانيّون ومتحضّرون. يتشدّقون بأحاديث السلام ويمضغونها لعلّ الرجل (الصهيوني) الأبيض يتعطف عليهم بلقاء. لكن الدور السعودي في عزل سوريا هو الأساس: وهناك حديث لكوندوليزا رايس تسرّب في كتاب بوب وودورد الجديد «الحرب من الداخل»، ويتوضّح فيه أن إهمال أميركا لسوريا هو تلبية لطلب سعودي. وعقيدة بوش في الديموقراطيّة تقيم أعظم الحساب لمملكة القهر. (لاحظنا أن حازم صاغية نعى أخيراً عقيدة بوش بعدما كان قد دعا في خطاب أمام الذراع الفكرية للوبي الصهيوني في واشنطن كل العرب إلى «تشرّب عقيدة بوش» في الديموقراطية).
لكن نقد المُمانعة السورية في الصحافة السعودية والحريريّة يدخل في نطاق الكوميديا السوداء. ينسى هؤلاء أن أقلام الحريري تخصّصت، ولأكثر من عقد من الزمن، في تدبيج المدائح لحافظ الأسد وبشار الأسد لسياساتهما وخطبهما وتصريحاتهما. كان يكفي أن يتثاءب واحد من آل الأسد حتى تنهال عليه المدائح في إعلام «المستقبل» (السلفي). ثم، لنتصارح بعيداً عن أدبيّات النفاق السياسي الذي تفجّر بعد اغتيال الحريري. هل كان هناك من مدح النظام السوري ومن أغدق العطايا على أجهزة استخباراته أكثر من رفيق الحريري؟ وفارس خشان ونصير الأسعد تخصّصا في جلسات «فكريّة» مع وكلاء النظام السوري في لبنان. لم ننسَ أن خشان كان يقول إن مجرد خطاب لبشّار الأسد يفتح «كوّة» في جدار إسرائيل. كان هو ومصباح الأحدب وميشال المرّ وغيرهم يعرضون أن يرقصوا بالشمعدان احتفاءً بوطء بشّار الأسد أرض لبنان. والسعودية تعلن عطايا رمضانيّة (هل من يلاحق إعلانات المنح السعودية التي كثيراً ما لا تأتي رغم الإعلام المُطنطِن عنها) بينما تمضي في سياسة الفتنة المذهبيّة. وكتاب بوب وودورد يروي تفاصيل عن لقاء خادم المصالح الأميركيّة الأمين مع السفير الأميركي في العراق. فالملك السعودي يتحدّث بالخطاب المذهبي نفسه الذي للجوزو وسَحَر الخطيب، ويشير إلى الشيعة بـ«الصفويّين». صارحَ عبد الله ضيفَه الأميركي بأن المملكة كانت ترغب في إبدال صدّام بصدّام آخر (ومن الطائفة ذاتها).
لكن بدائل المُمانعة المُقاوِمَة ماثلة، ليس فقط في هذا القرن من الصلابة الشعبيّة الفلسطينيّة. تستطيع أن تكتبَ شعراً في هذا الثبات في الموقف الفلسطيني الشعبي على مرّ السنين. ما هي المُمانعة عندما تتحوّل غزة «المُحرّرة» إلى سجن كبير يخفره النظام العربي الرسمي بالنيابة عن إسرائيل؟ كانت إسرائيل تخشى على أمنها من الجيوش العربيّة. أما اليوم، فالجيوش العربيّة أصبحت ضماناً أمنيّاً لدولة الاحتلال، على غرار جيش محمد دحلان المُتسربل بالسراويل الداخليّة، وهو في الهريبةِ كالغزال. والنظام في سوريا يتفاوض مع إسرائيل في وقت يكيلُ المدائح للمقاومة في لبنان. ولكن هناك من يجب أن يسأل أحداً في النظام عن هذا التناقض: إذا كان النظام في سوريا شديد الإعجاب بنسق المقاومة اللبناني، فلماذا لا يسمح بتطبيقِها في الجولان المحتلّ، ولماذا لم يفتحْ الجبهة عندما تعرّض لبنان لأبشع عدوان في تاريخه، يوم كان السنيورة يبكي ما لم يستطعْ أن يحافظ عليه؟ أم إن النظام في سوريا يؤمن بنسق المقاومة ولكن... في الزمان والمكان المناسبين، أي في اللانهاية. وبديل الرفض القاطع يكمنُ في لاءات الخرطوم الشهيرة، بالإضافة إلى نسق المقاومة المدروسة والعلميّة كما جرى في لبنان، وهما الضمانان الأكيدان لتغيير حقيقي في ميزان القوى مع العدوّ. والأنظمة العربيّة تحاول أن تعطي إسرائيل ما لا تملكه: أي صكّ الاعتراف والقبول الشعبيّين، وهما ملك للشعب لا طاقة للأنظمة على التصرّف به. لا نحتاج إلى ممانعة، ولا نحتاج إلى استجداء ولا نحتاج إلى انصياع عربي رسمي شامل. أما الرفض، فهو البركان. فلْنُصَب بالبركان، كما أُصيبَ أحمد الزعتر.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)