الفنان الأربعيني المتعدد المواهب، الآتي من صفوف اليسار ومختبرات المسرح الحرّ، لم تشغله النجوميّة عن معاركه السياسية والاجتماعيّة. زيارة إلى المخرج والممثّل المصري الذي جسّد «جمال عبد الناصر» على الشاشة، قبل أن تكرّسه «عمارة يعقوبيان»
دينا حشمت
عندما تدخل شقة خالد الصاوي، تجتاز أولاً ممراً يحتوي من الميداليات والجوائز وصور لينين وتشي غيفارا... ما يعطيك «نبذة» أولية كافية عن إنجازاته الفنية وميوله السياسية. ثم تجد نفسك في غرفة يحتل الجزء الأكبر منها مكتب ضخم مهيب، وتُعطيك جدرانها ما لم يصلك بعد عنه من معلومات: رفوف تعج بكتب الفلسفة والنقد الفني والأدب الروسي... مجلّدة بالأحمر والأخضر والبني، وصور لتشابلن، وأفيش كبير لـ«التانغو الأخير في باريس» مع مارلون بروندو، وصور لخالد الصاوي ممثلاً: «بلعوم المغني» في آخر أفلامه «كباريه»، و«مصطفى أمين» في مسلسل أم كلثوم، و«جمال عبد الناصر» في زيّه العسكري في فيلم لأنور القوادري عن زعيم الضباط الأحرار.
ويحتل فيلم «جمال عبد الناصر» (1998) صدارة مدوّنة خالد الصاوي هذه الأيام، ربما ليسهّل على قرائه مقارنته بالمسلسل المعروض حالياً على الشاشات الرمضانية. الفيلم كان أول تجربة له كممثّل سينما، دخل في جلد «الزعيم الخالد» بإتقان وحرفيّة، وبدا الدور امتداداً لأدوار كان يمثّلها على خشبة المسرح، مع فرقة «الحركة» التي أسّسها سنة 1989. ذلك أنّ خالد الصاوي كانت تؤول إليه «تلقائياً» شخصيات «الزعماء» أو «الأقوياء»: أنا «اتنَمطت في دور الضابط، دور القوي». ربّما يعود ذلك إلى جسم هو أسهل تعبير عن البطش والسيطرة، أو صوت يعلو بسهولة فوق صوت الجميع. كان خالد يلعب هذه الأدوار بسلاسة، وأحياناً بمبالغة في الأداء، على حد تعبير بعض النقاد.
اختار الشاب «نادي الفكر الناصري» كانتماء سياسي، فور دخوله كلية الحقوق في جامعة القاهرة في بداية الثمانينيات، قبل أن يمرّ على العديد من النظريات الماركسية. «ستاليني في الأوّل، الاشتراكية المدرسية يعني. بعدين فوضوي شوية، ماوي شوية». امتلك هذا الشاب الخلفية السياسية اللازمة لتمثيل دور زعيم الأمة العربية. كما امتلك الغضب السياسي اللازم ليكون «توم فوكس»، الجنرال الأميركي المتعجرف في مسرحية «اللعب في الدماغ».
العرض الذي ألّفه وأخرجه بنفسه، يسخر من الإمبريالية الأميركية، والزعماء العرب الواقعين تحــــت سطوة ثلاث ساحرات شريرات، «عو»، «لا» و«ما». عدّته الناقدة المسرحية نهاد صليحة وقتها «أقرب ما يكون إلى كباريه سياسي سطحي»، لكنه عُرض لمدة شهرين كاملين، وحظي بنجاح جماهيري نادر في مسرح «الهناجر» التابع لوزارة الثقافة الذي يتكوّن أغلب جمهـــــــوره من المثقّفيــــــن. ربّما عبّرت «اللعب في الدماغ» عن حالة غضــــــــب عامة، بعد عام على غزو العراق، وفي جوّ التظاهـــــرات المنـدّدة بالغزو وتأسيـس حركة 20 مـارس التي كانت بياناتها توزّع خلال العــــــرض.
كانت أول مرة أرى فيها خالد الصاوي على المسرح. لم يبد لي مختلفاً عما كان في مناسبات سياسيّة كنت أقابله فيها، في مؤتمر يدعم المقاومة في العراق، أو في «أيام اشتراكية» ـــ اللقاء السنوي الذي ينظّمه اليسار الراديكالي ـــ وقد أعلن عنه الصاوي على مدوّنته، داعياً إلى «عالم بديل ينطلق من المقاومة الشرسة للاستغلال والاستبداد والاستعمار»: الصوت الجهوري نفسه، والخطابة نفسها... وإن اختلف مضمون الكلام.
لكنّ المفاجأة حدثت مع خروج خالد الصاوي من شخصية الضابط «الزعيم»، وظهوره في دور سمح له أن يتخلّص من «التنميط»: إنّه دور المثلي جنسياً ورئيس تحرير جريدة «لي كار» الفرنكوفونية في «عمارة يعقوبيان»: «كانت نقلة بالنسبة إليّ». سمح له هذا الدور بأن يكشف عن قدرات تمثيلية أكثر تنوعاً وتعقيداً. وهو يرى أنّه استطاع من خلاله أن يتجاوز كليشيهات السينما المصرية عن المثليين: «الـ gay بالنسبة لنا يا إما صبي عالمة، يا إما واحد شغلته أو وجوده في الحياة، إنه مثلي جنسيّاً».
نقلة «يعقوبيان» واكبتها نقلة أخرى: العودة إلى دور الضابط في «الجزيرة» لشريف عرفة. لكن هذه المرة، لم يكن الحضور الجسدي الطاغي هو السبيل الأوحد للتعبير عن السلطة، إذ امتزج في أداء الممثّل بإيحاءات إلى مراوغات الضابط المتمرّس في حربه الشرسة ضد الجماعات الإسلامية في صعيد مصر.
لكنّ هناك أفلاماً أخرى، ومسلسلات: «مزيج من أكل العيش على لازم أكون موجود، على إن ده كان أفضل المعروض في الفترة دي». خالد الصاوي يعي تماماً طبيعة السوق الفنية التي دخلها بعدما أصبح نجماً، ويعلم ضراوة الوسط الفني وشراسته. المناضل السياسي الذي شارك في أغلب تظاهرات «كفاية» سنة 2005، يرى أن وجوده في هذا الوسط «إنجاز مهم». إنّه في نظره جزء من خطة أشمل، تسمح له بتنويع مهاراته، وقد تفتح له إمكان العودة بقدرات أكبر إلى مجال المسرح الحرّ الذي خطا فيه خطواته الأولى: مجال كسر التابوهات وخلق أدوات تمثيلية جماعية. يرى صاحب دور «الطبيب النفسي» في «كده رضا» أنّه يمتلك «هامش مناورة عالياً»: «أنا بعمل كذا فن. لو ضاقت بي السبل كممثل، أقدر أكون مخرج مسرح أو سينما أو تلفزيون، وأقدر كمان أعمل «ڤويس أوڤر» للأطفال... وفي كل الأحوال ممكن آخذ العود وأغني في الشارع أو في حديقة أو في الهناجر». وهو سعيد بخروج فيلمه المقبل، «السفّاح» أول فيلم اشترك في تأليفه، ويشاركه بطولته هاني سلامة ونيكول سابا.
هكذا هو خالد الصاوي: يؤكّد أنّه ليس فقط ممثلاً، بل «فنان شامل»، حسب سيرته الذاتية في «كلام مرسل»، آخر دواوينه الشعرية (الهيئة العامة لقصور الثقافة ـــ 2008). خط السير واضح أمامه أو هكذا يبدو. هو طموح ويعرف ما يريد. لم يعد ذلك الشاب الذي يذهب ليعمل مع أبيه المحامي في مكتبه، ثم يعود إلى زملائه في المسرح الحر أو يشتغل كمساعد مخرج («سمكة وأربع قروش»). لكنه ورث من المحاماة «فلسفة الحق»، ومن أيام الجامعة روح المقاومة، ولن «يستطيع على القطيعة» مع رفاق الدرب. يوم 5 أيلول (سبتمبر) الحالي، أحيا ذكرى زملائه الذين ماتوا في حريق قصر الثقافة، تلك الكارثة التي ضربت المسرح المصري في بني سويف سنة 2005. لم ينس في مدوّنته أن يدعو إلى التبرّع لأهالي الدويقة. ولم ينسَ، وأنا أغادر، أن يذكّرني بإفطار تنظّمه حركة «تضامن» التي تجمع التبرّعات لهؤلاء المنكوبين، آخر ضحايا إهمال الدولة. «هدف الفنّان الحصول على حريته» يقول خالد الصاوي، لكن هذه الحرية لن تكتمل ما لم يشاركها أبناء وطنه.


5 تواريخ

1963
الولادة في الإسكندرية
1989
تأسيس فرقة «الحركة» التابعة للمسرح الحرّ الذي تبلور في مصر خارج إطار مسرح الدولة وقيوده
1993
التخرّج من معهد السينما
2007
جائزة أفضل ممثّل (دور ثانٍ) في المهرجان القومي للسينما عن دوره في «عمارة يعقوبيان»
2008
بطولة «الجزيرة» (إخراج شريف عرفة)