إسماعيل إبراهيمالصراع الكوبي ـــ الأميركي محتدم منذ انتصار الثورة الكوبية عام 1959، ويشهد على هذا الاحتدام الهجوم الأميركي بواسطة آلاف المرتزقة والعملاء على خليج الخنازير (هيرون) بغية الإجهاز على الثورة الفتية، فانتصرت الثورة مرة أخرى وتعززت علاقاتها بالاتحاد السوفياتي آنذاك، وأعلن الرئيس الكوبي فيدل كاسترو الطابع الاشتراكي للثورة الكوبية. ولم تتوقف أجهزة الإدارات الأميركية المتعاقبة عن محاولات التخريب والاغتيال والحصار الاقتصادي ورعاية المنظمات الكوبية المعادية للثورة والمقيمة في ميامي (فلوريدا) الولايات المتحدة وتمويلها وإدارتها. ولهذه المنظمات (المؤسسة الوطنية الكوبية الأميركية، المجلس لتحرير كوبا، إخوة للإنقاذ وألفا ــ 66 ...) تلفزيون وراديو مارتي وصحف وطائرات طالما حلقت فوق كوبا بقصد التخريب أو تشجيعاً لعناصر معارضة في الداخل. ولما كان لكوبا الحق في الدفاع عن نفسها، فقد أرسلت الشبان الخمسة للعمل داخل المنظمات الكوبية سعياً وراء كشف المؤامرات والمخططات وإحباطها في المهد. غير أن أجهزة الأمن الأميركية داهمت بيوت الشبان الكوبيين الخمسة واعتقلتهم منذ عشر سنوات، وحوكموا على أساس تهم لم يقدم دليل واحد على صحة إحداها عدا تهمة انتحال الصفة وعقوبتها القصوى وفق القوانين الأميركية ثلاث سنوات. بينما وصلت عقوبات بعض هؤلاء الشبان إلى حكمين مؤبدين زائداً 18 عاماً، ما دفع إحدى لجان الأمم المتحدة ذات الصلة إلى اعتبار الأحكام تعسفية واعتباطية.
وقد تركزت التهم على المؤامرات للقيام باغتيالات من الدرجة الأولى، فيما لم يغتالوا أحداً ولا أعدّ أحدهم خطة لاغتيال أحد. كما اتهموا بالتجسس الذي هو وفق القانون الأميركي: «سرقة أسرار الدولة» ولم يسرق هؤلاء الشبان سراً واحداً من أسرار الدولة الأميركية، ولكنهم سعوا للحصول على معلومات تتعلق بالمنظمات الكوبية المعادية للثورة والمقيمة في ميامي (فلوريدا).
إنّ الأحكام الجائرة التي أصر القضاء الأميركي عليها لا مبرّر قانونياً أو أخلاقياً لها. إنها أحكام قائمة على الانتقام السياسي الذي يجد أساساً له في الصراع القائم بين البلدين منذ نصف قرن، والذي تؤجّجه سياسة الولايات المتحدة القائمة على الرغبة في الهيمنة وعلى عدم الاعتراف بحق الشعوب في اختيار النظام السياسي والاقتصادي الذي يناسبها. إنّ الولايات المتحدة لا تنتهك بأحكامها الاعتباطية الجائرة على الشبّان الكوبيين الخمسة: أنطونيو رودريغيز، فرناندو غونزاليز، هيراردو هيرنانديز، رامون سالاسار ورينيه غونزاليز، حقوق الإنسان فحسب، بل تنتهك قوانينها بالذات، حيث وُضع الشبان الخمسة في زنازين انفرادية مدداً تراوحت بين 48 يوماً و17 شهراً، رغم أن قوانين إدارة السجون في الولايات المتحدة تحدّد المدة القصوى للوضع في الزنزانة الانفرادية بـ60 يوماً، وهذا مخالف أيضاً للقانون الدولي ذي الصلة بالحقوق المدنية والسياسية، إذ ينص على أنه «لا يجوز أن يخضع أحد للتعذيب والقصاص أو الضرب اللا إنساني أو الإذلال...».
أليس من التعذيب ومن القصاص اللا إنساني ومن الإذلال وضع هؤلاء الشبان الخمسة هذه المدد الطويلة في الزنازين الانفرادية؟ أليس من الانتقام السياسي بواسطة القضاء والمحاكم عرقلة الزيارات الدورية التي حاولت وتحاول أمهات المعتقلين الخمسة وزوجاتهم وأولادهم القيام بها؟ أليست هذه التدابير عقوبة إضافية في ما يتعدى القوانين وحقوق الإنسان والأخلاق لهؤلاء الشبان الخمسة ولذويهم كباراً وصغاراً؟ ولماذا تحرم أو تمنع السيدة أدريانا بيريز وأولغا سالانويفا من زيارة زوجيهما هيراردو هيرناندز ورينه غونزاليز منذ أكثر من ثماني سنوات؟ ولماذا، في السياق نفسه، تضع السلطات الأميركية في وجه محامي الدفاع والموظفين القنصليين الكوبيين المقيمين في الولايات المتحدة، للحدّ من زيارتهم ومقابلة هؤلاء الشبّان المعتقلين، خلافاً لأبسط الأنظمة والأصول ذات الصلة بقضية الموقوفين وقواعد التعامل معهم بصفتهم بشراً ولهم الحق في معاملة إنسانية وفق ما تنص عليه حقوق الإنسان والقوانين العادلة؟
إنّ الانحياز واضح جداً في هذه المحاكمة الأميركية المبنية على الأحقاد السياسية، ومن حقوق الإنسان «حصوله على محاكمة علنية غير منحازة».
ومن المؤكد أنّ الأحكام الجائرة هذه والخرق الفاضح لحقوق الإنسان بإحلال الانتقام السياسي والتعسف مكان الحكم القضائي العادل، والاطلاع على أفكار القائد فيدل كاسترو ومبادئ الثورة، قد جعلت المناضل العربي اللبناني سمير القنطار يتحسّس بعمق ونبل إنساني حجم الظلم الواقع على الشبان الكوبيين الخمسة في سجون الولايات المتحدة، فانبرى من سجنه في إسرائيل (30 سنة في السجن) يتصل بهؤلاء الشبان ويراسلهم، مبدياً تضامنه مع قضيتهم، معلناً أنّ قضيتهم هذه وقضية الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين والعرب في سجون إسرائيل قضية واحدة مهما تباعدت مساحات النضال واختلفت الرايات، وإن التضامن العالمي المتزايد يوماً بعد يوم بإمكانه أن يرفع الظلم عن جميع الأسرى المظلومين مهما طال الزمن.
ومعلوم أنه ليس هناك ترجمة عملية لمبادئ حقوق الإنسان بمعزل عن مستوى الحرص على كرامة الإنسان ككائن حر جدير بالاحترام. وعلى ضوء جوانبها العملية يمكن الحكم على مصداقية هذا البلد أو ذاك تطبيقاً لشرعة حقوق الإنسان. أليس مدعاة استغراب أن تقدم الولايات المتحدة نفسها أكبر راعية لحقوق الإنسان، فيما هي الأكثر خرقاً أو انتهاكاً وتجاوزاً لحقوق الإنسان؟ أين الحرص على كرامة الإنسان والتعامل معه على أساس العدل في تعاطي الإدارة الأميركية مع الشبان الكوبيين المعتقلين في سجون الولايات المتحدة؟ وهل غزو البلدان الغنية بالثروات وإذلال شعوبها ونهب ثرواتها (في العراق وأفغانستان، الخ...) لها صلة بحقوق الإنسان؟ فمن هو وأين هو الإنسان الذي تتحدث الولايات المتحدة عن حقوقه صبحاً ومساءً؟ وما نفع الكلام على شرعة ما تخصّ مستقبل البشرية إذا كانت الجهة الأكثر كلاماً عنها أكثر خرقاً لها وأقل حرصاً عليها؟ إنّه التضليل بعينه. وما يُقال عن حقوق الإنسان في سياسة الولايات المتحدة يقال عن الديموقراطية والحرية.
أين المصداقية الأميركية في حقوق الإنسان ما دام الحصار الاقتصادي الأميركي على الشعب الكوبي مستمراً منذ نصف قرن؟ وهل من حقوق الإنسان أن يعاقب شعب بأكمله بالحصار الاقتصادي.
إن تعاطي الإدارة الأميركية وأجهزتها مع قضية الشبان الخمسة الكوبيين وإصرارها على استمرار الحصار الاقتصادي درس مفاده أن في سياسة الولايات المتحدة خطراً جدياً على حقوق الإنسان والقوانين الدولية والمفاهيم والقيم الإنسانية، ما يجعل التضامن العالمي في وجه هذه السياسة مسألة مستعجلة للحدّ من أخطارها على الصعيد العالمي، تعبّر البشرية من خلاله حضارياً عن الحرص على حقوق الإنسان المهدّدة جدياً بسياسة الولايات المتحدة القائمة على سيادة منطق القوة والعودة بالبشرية إلى الحروب والهمجية.