strong>يحيى فكري *«مين بيخبّط؟ إحنا مباحث أمن الدولة! دولة مين؟ دولة مصر. مصر العشّة ولا القصر؟!». هي أبيات قديمة لأحمد فؤاد نجم، شاعر العامية المصرية الشهير، على شكل حوار بينه وبين ضباط المباحث الذين اقتحموا منزله للقبض عليه، ليعلن عبر تساؤله الأخير الموجّه إليهم موقفاً حاذقاً وبالغ الدلالة، فمصر ليست واحدة بل هناك مصران: مصر «العشة»، ومصر «القصر»! يُعيد هذا التساؤل القديم طرح نفسه دائماً، بل هو يبقى عالقاً في ذهنك بحضور شديد الوطأة وأنت تتجول في شوارع القاهرة، حيث تتجاور العشش والقصور، وحيث ملايين المعدمين النائمين في العراء، أو في منازل أكثر بؤساً من القبور، على بُعد بضعة أمتار من الأسوار العالية المحيطة بالمنتجعات الفاخرة، التي تفوح من وسط أبنيتها رائحة الثراء الفاحش. ولن يُخطئَك أبداً الشعور بعدم مشروعية هذا الثراء ـــ مجرد وجوده في حد ذاته ـــ أمام ما يحيط به من بؤس وفقر مدقعين.
أعاد تساؤل نجم طرح نفسه مجدداً في مصر خلال الأسبوع الأخير، بدموية وقسوة شديدة هذه المرة، على أثر واقعتين تزامنتا بالصدفة الفجة، وكأن الأقدار تريدنا أن نرى الحقيقة عارية وحادة وصادمة، وحتى لا يتغافل عنها أحد في ما بعد.
الأولى كانت إعلان عريضة الاتهام في جريمة اغتيال الفنانة اللبنانية سوزان تميم، التي وجّهت تهمة التحريض على القتل للملياردير المصري هشام طلعت مصطفى، المستثمر العقاري وصاحب السلسلة الشهيرة من الفنادق والمنتجعات الفاخرة. وقد اغتيلت سوزان تميم ذبحاً في دبي على يد ضابط مباحث مصري سابق يعمل لدى هشام مصطفى، وكشفت شرطة دبي عن هوية القاتل، كما كشفت شهادات ومحاضر اتهامات في عواصم عدة عن شخصية المحرّض، التي حسمتها شهادة الضابط القاتل وتقديمه تسجيلات لحوارات هاتفية دارت بينه وبين هشام مصطفى، قام فيها الأخير بالاتفاق معه وتحريضه على قتل سوزان.
ولأن هشام أحد رموز الحقبة الراهنة في مصر التي تشهد تزاوج رأس المال الاحتكاري والسلطة، وهو عضو في مجلس الشورى وأحد النجوم الصاعدة في لجنة السياسات التي يترأسها جمال مبارك، لذا ما كان من الممكن توجيه الاتهامات له وإلقاء القبض عليه دون التهديدات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية التي مارستها الإمارات العربية على مصر، فالقانون المصري يخضع دائماً لأصحاب النفوذ، وخاصة عندما يكونون وثيقي الصلة إلى هذه الدرجة ـــ كحالة هشام مصطفى ـــ مع الأسرة الحاكمة.
الواقعة الثانية كانت المأساة التي شهدها حي الدويقة، وهو أحد أفقر أحياء القاهرة وأكثرها بؤساً، بُني بطريقة عشوائية على أحد حواف هضبة المقطم المطلة على القاهرة بين جنبات الكتل الحجرية الضخمة وأحضانها التي تمثّل حواف الهضبة. ولأسباب جيولوجية وهندسية يعرفها الجميع، نُشر عنها العديد من الأبحاث والدراسات وخرجت بصددها الكثير من التحذيرات، كانت تلك الكتل الحجرية معرّضة دوماً للانهيار بفعل عوامل تشقق طبيعية وأخرى ناتجة من التوسع في إنشاء المنتجعات الفاخرة فوق سطح الهضبة، وبما يهدّد حياة مئات الآلاف من الفقراء القاطنين في أحضان الكتل المعرّضة للانهيار. وفي صباح 6 أيلول/ سبتمبر الحالي وقعت الواقعة، حيث انهارت 8 كتل حجرية ضخمة يتراوح وزن كل منها ما بين 100 و500 طن، فحطمت 35 منزلاً واقعة أسفلها ودفنت مئات عدة، ما يقرب من 500، من الفقراء القاطنين بها تحت الأنقاض.
والدويقة ليست مجرد واحد من أحياء القاهرة العشوائية الفقيرة، بل هي معقل للبؤس ومرتع لجميع الموبقات، نشأت في الأصل كموطن للصوص ومروّجي المخدرات وبائعات الهوى، وكل معدمي الريف النازحين إلى القاهرة بحثاً عن لقمة العيش، الذين لم يجدوا من سبيل أمامهم سوى الجريمة أو بيع أجسادهم وأرواحهم، هذا غير أنها كانت مستودعاً للقمامة، حيث تُجمع فيها كل مخلّفات القاهرة، لفرزها وإعادة تدويرها وحرق ما لا فائدة منه.
ومع الوقت، تحوّلت إلى مستوطنة لفقراء الريف الباحثين عن عمل، يبنون عششاً ومنازلَ لا تخضع لأي مواصفات آدمية. يعمل الكثيرون منهم في التنقيب داخل القمامة وإعادة تدويرها، وأغلبهم يشتغلون كعمالة مؤقتة في الأعمال الإنشائية المرتبطة بتشييد المنتجعات الفاخرة العديدة المقامة فوق سفح الهضبة، وبعضهم يمارس صوراً متنوعة من الأنشطة غير الشرعية.
وداخل كل عشة أو حجرة، تقيم أسرة ممتدّة يتجاوز عدد أفرادها العشرة في كثير من الأحوال، وغالباً لن تقدر على التنفس وأنت تتجول في حواريها الضيقة بسبب القدر الهائل من التلوث الناتج من أكوام القمامة وحرق المخلّفات.
هكذا خرجت الصحف تحمل في عناوينها الرئيسية مأساة الدويقة، بينما هي لم يكن لها شاغل في الأيام السابقة على ذلك سوى قصة هشام مصطفى وسوزان تميم. وهكذا تجاور الخبران. من يصدق أن ذلك الملياردير السفيه أنفق حوالى 15 مليون دولار على تلك المطربة المغمورة؟ هذا ما كشفت عنه التحقيقات، بل هو دفع مليوني دولار لقاتلها نظير جريمته! أي إن ما أنفقه عليها يقترب من المئة مليون جنيه مصري! يحدث هذا في مدينة يعيش فيها 8 ملايين مواطن في العشوائيات والمقابر، داخل خيام وعشش من الصفيح وحجرات من الطوب النيء، ضمنهم 3 ملايين يفترشون العراء بلا مأوى.
يبنون الفنادق ذات السبعة نجوم، والمنتجعات التي تضم قصوراً تنضح بثرائها، واقعة على ضفاف بحيرات صناعية ومحاطة بملاعب غولف شاسعة، حصلوا على تلك الأراضي، للعجب، دون مقابل، وموّلوا الإنشاءات بقروض مصرفية بلا ضمانات، سندهم الوحيد هو ما يربطهم بحسني مبارك وابنيه من صلات ومصالح قائمة على شبكة من الفساد تتحكم في كل الأمور. وهكذا جنوا ثروات طائلة، وتحوّلوا بين عشية وضحاها إلى أصحاب مليارات ينفقونها بسفه، على غرار هشام مصطفى وبضع عشرات من أمثاله يمثّلون حاشية جمال مبارك وريث العرش المنتظر.
ولا يهم إذا ما كانت دوافع هشام مصطفى في التحريض على ذبح سوزان تميم هي الغيرة أو الانتقام أو غيرها، إلى آخر ما دارت حوله الشائعات والأقاويل، فالاثنان، في حقيقة الأمر، أقل شأناً من أن يهتم أحد بما جرى بينهما، لكنه ذلك الترف المفرط في وقاحته الذي ينعم به بضعة سفهاء داخل بلد يعيش ما يقرب من نصف سكانه تحت خط الفقر، ويعاني ما يزيد عن خُمس مواطنيه الجوع.
وسيبقى السؤال: «مصر العشة ولّا القصر؟!» حائراً إلى أن يتوقف سكان العشش عن رضوخهم وقناعتهم بما قسمته لهم الأقدار، ويهبّوا في مواجهة أصحاب القصور، فيزيحوا عن كاهلهم كل هذا العفن الذي يكتم الأنفاس في مصر.
* صحافي مصري