محمد بنعزيز *«نؤكّد إرادتنا الراسخة في ضرورة أن يكون الهدف الاستراتيجي لكل السياسات العمومية هو توسيع الطبقة الوسطى، لتمثّل القاعدة العريضة وعماد الاستقرار... وإن عزمنا الوطيد هو جعل الفئات الوسطى مرتكز المجتمع المتوازن». هذا ما قرّره الملك محمد السادس في خطاب 30/07/2008.
واضح أن الطبقة الوسطى في المغرب ضعيفة، لماذا؟
كانت المشاركة الهزيلة في انتخابات العام الفائت في أيلول/ سبتمبر 2007، محطة فارقة في تمثل العهد الجديد لنفسه. انقشعت الأوهام، وكان هذا الكشف قاسياً بالنسبة للطبقة السياسية، أظهر أنّ الحديث عن التفاف الشعب ودعمه للعهد الجديد مسألة فيها نظر، وقد تبين أن للموقف الشعبي من الانتخابات ما يبرّره، فالبرلمان ليس سلطة تشريعية، إنه غرفة للتسجيل كما وصفته إحدى صحف المعارضة، وهو مكان يدخله الأعيان لتجديد دمائهم وحماية أنفسهم.
عرّت الصدمة الانتخابية اللاتوازن الذي يعيشه المجتمع، فهناك فئات يمثّل توفير المسكن والمأكل سقف أحلامها، وأقلية تحتكر الثروات والمناصب العليا. بين ذينك الأقصيين علاقة عداء واحتقار متبادل، ينفجر في أول احتجاج وينقلب إلى تخريب منهجي للممتلكات. لمنع هذا الحريق الدوري، لا بدّ من طبقة وسطى كثيفة ومعتدلة تمتصّ الصدمات وتضمن للسلطة قاعدة ارتكاز آمنة.
هذه آمال مشروعة، وخاصة أن الوضع الاقتصادي يتحسن، بل تحدثت صحيفة «لوموند» الفرنسية في 10/08/2008 عن «انفجار اقتصادي» مغربي. غير أن هذا الازدهار لا يشمل الجميع. فالأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يحاولون تأمين طعامهم، وبينهما تتشبث الفئات الوسطى بمواقعها كي لا تتقهقر في السلّم الاجتماعي. هذه هي الحقيقة، ومهما كان التقدير والإعجاب الذي يكنّه المواطن للملك الشاب، فإن ميكانيزمات الوضع القائم تدعو للتشاؤم، لأن كل العوامل المعادية لظهور الطبقة الوسطى وتوسعها ما زالت تعمل بقوة، وقد حذر منها الملك عندما قال «يتعين على الجميع التحلي باليقظة والحزم... لا سيما عندما يتعلق الأمر بقوت الشعب، والمضاربات في الأسعار، واستغلال اقتصاد الريع، والامتيازات الزبونية، أو نهب المال العام، بالاختلاس والارتشاء، واستغلال النفوذ والغش الضريبي».
لقد بيّن الملك في خطابه أن عصب الطبقة الوسطى يبدأ من الاقتصاد لتقوم بدورها في الاستقرار والتغيير. وقد كان هذا هو الموضوع الرئيسي للجامعة الصيفية في طنجة في تموز / يوليو 2008 لمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية. تناولت هذه الجامعة إشكالية الاقتصاد السياسي والاجتماعي للانتقال الديموقراطي، وأوضح المتدخلون الأسس الاقتصادية للديموقراطية ومدى تأثير الاقتصاد على الإصلاح السياسي، بل خضوع الممارسة الديموقراطية للسياسة الاقتصادية للدولة. ووقفوا على المحتوى الاجتماعي للديموقراطية التي تتطلب مساواة اجتماعية واقتصادية، وربطوا بين الليبرالية الاقتصادية والليبرالية السياسية، وأكدوا على أهمية الفاعلين الاقتصاديّين في المسلسل الديموقراطي، وخاصة دور القطاع الخاص في تشجيع الإصلاحات...
غير أن هذا القطاع لا يملك استقلاليته، لأن جلّه خدماتي غير منتج وعالة على الدولة، لذا لا يعبر رجال الأعمال عن آراء خاصة معلنة، وغالباً ما يسلّط تفتيش ضريبي انتقامي على الباحثين منهم عن الاستقلالية. ولأن أصحاب النفوذ الاقتصادي هم أصحاب النفوذ السياسي، فهم يحمي بعضهم بعضاً، والدليل: أقرّ البرلمان قانوناً لمحاكمة الوزراء الفاسدين. ممتاز! لكنه قانون يشترط الإجراءات نفسها التي يتطلبها تعديل الدستور. كارثة.
ينطبق هذا على جلّ الدول العربية. وقد أثبتت التجربة في دول عدة أنه لا يمكن تحقيق شفافية اقتصادية في ظل استبداد سياسي، لا يمكن للسياسات العمومية غير الواضحة أن تنتج طبقة وسطى وتقويها مجاناً، لذا لا بد من دفع الكلفة المحدّدة والمعلومة اقتصادياً وسياسياً لتحقيق الاستقرار.
اقتصادياً، يجب أولاً القضاء على نظام الريع والرخص الذي يمكن شخصاً لا يشتغل من تحصيل الملايين. ثانياً يجب اعتماد الشفافية في الصفقات العمومية. ثالثاً لا بدّ من إخضاع كل الفاعلين الاقتصاديين لقواعد واحدة واضحة لإضعاف المجموعات الاقتصادية المتنفذة التي تحتكر قطاعات ضخمة، وسيجري إضعاف تلك المجموعات بواسطة محاربة الرشوة بشكل فعال، لأن الرشوة تخنق المشاريع الصغيرة، ولا يقدر عليها إلا أصحاب المشاريع الكبيرة، مع أن المشاريع الصغيرة هي عصب الطبقة الوسطى. جوهر المسألة هو فصل الاقتصاد عن السياسة ليشتغل قانون السوق بشكل فعال. وأخيراً يجب خفض الضريبة على الدخل بالنسبة للموظفين. للمقارنة، فتلك الضريبة تبلغ 13 في المئة في روسيا و42 في المئة في المغرب، وهذا إفقار للبيروقراطية المتوسطة.
المطلوب إذاً هو اتخاذ إجراءات تخرج ملايين الأشخاص من الهشاشة ومخاطر اليأس والتطرف لتدخلهم في وضع الاكتفاء والاستقرار الاقتصادي، وهذا ما سيمكّنهم من العمل على تطوير أوضاعهم وتوفير دعم ليبرالي للدولة.
سياسياً، يجب أولاً خلق صلة ثابتة بين صناديق الاقتراع واتخاذ القرار، وثانياً الالتزام بتعامل السلطة مع كل الأحزاب على قدم المساواة، وثالثاً استبدال مقالب وزارة الداخلية للتحكم في المجال الانتخابي بقواعد واضحة للمنافسة السياسية، ورابعاً توسيع صلاحيات الوزراء واستقلاليتهم لتقليص مساحة تدخل مستشاري الملك، وخامساً وقف جعل الصداقة والمصاهرة والعشق وسائل أساسية لتولي المناصب، وسادساً ضمان استقلالية القضاء، وأخيراً وقف التضييق على حرية الصحافة.
الطبقة الوسطى التي تكره الانصياع ويعتز أفرادها باستقلاليتهم المادية والفكرية، هي حاملة فكر الأنوار، فكر يطالب بقواعد واضحة متعاقد عليها للمنافسة الاقتصادية والسياسية. في مغرب اليوم، يدعم نظام الريع الاقتصادي نظام الريع السياسي. لا يمكن تغيير الثاني دون التخلص من الأول. هذا هو ثمن توازن المجتمع واستقرار الحكم. لكنّ هناك عائقاً بنيوياً، وهو أن المتنفذين المرتبطين بالقصر، ويسمّون «خدام الأعتاب الشريفة»، يستفيدون من الوضع القائم، لذا سيباركون المبادرات الملكية علناً، وعملياً سيعرقلونها لأنها لا تسير في مصلحتهم. إنهم حسب مونتيسكيو يحبون الدولة، لكن ليس لذاتها، بل للفوائد التي يمكن جنيها منها. فكيف تتجه السياسات العمومية لدعم طبقة وسطى، بينما يكون أول ثمن لتلك السياسيات هو تجريد المحظوظين من امتيازات رفاهية خيالية؟
* صحافي مغربي