منار ديب
للوصول إلى الغاليري، لا بدّ من عبور عدد من الأزقّة المتعرّجة والمتداخلة في دمشق القديمة... إلا أنّ Mustafa Ali Gallery & Art Foundation هو عنوان معروف بالنسبة إلى المثقفين وجمهور الفن. هذا البيت الدمشقي الجميل في شارع تلّ حجارة داخل حارة اليهود، تحوّل منذ سنوات إلى فضاء للأنشطة الإبداعية وطبع الحي بطابعه... حتى صار يُعرف بـ «حيّ الفنانين» مع لجوء عدد متزايد من التشكيليين السوريين إلى بيوت الحارة القديمة ليتخذوها محترفات لهم.
«في عام 2003، كنتُ أبحث عن بيت في الشام القديمة، جئت إلى هذه المنطقة المهجورة. رأيت البيت وأعجبني فاشتريته. لمعت في ذهني فكرة أنّه يمكن أن يكون نواة لتجمّع فنانين ويعيد الحياة إلى الحيّ». نرى أعمالاً جديدة لمصطفى علي في باحة الدار، ستشارك في معرض للفن السوري المعاصر في الدوحة خلال الشهر المقبل. كما أنّ لديه معرضاً آخر في دبي في كانون الأول (ديسمبر) المقبل مع الفنان مصطفى فتحي، تنظّمه غاليري «أيام»، إضافة إلى مشاركته في «معرض باريس ــــ دمشق: نظرات متقاطعة» في العاصمة الفرنسية، ويضم أعمالاً لفنانين سوريين تعكس علاقتهم بعاصمة الأنوار، ويتوقع أن يقام في تشرين الثاني/ نوفمبر الحالي.
تبدو الأعمال الجديدة أشبه بمسلّات خشبية مجوَّفة مفتوحة من الأعلى: «أعمل على فكرة الإنسان الذي هو في طور التخلص من شيء، وقد يتخلص أو يبقى عالقاً». أنجز مصطفى علي أخيراً عملاً لسطح «معهد العالم العربي» في باريس، هو عبارة عن بلاطات مصنوعة من حديد الفونت، تحتوي على نحت نافر، وتستفيد من عناصر زخرفية محلية. والعمل الذي اختير ضمن مسابقة شارك فيها العديد من الفنانين العرب، افتُتح رسمياً بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلي باريس. «وجود فنان سوري في متحف معروف هو نافذة للعرب في أوروبا». وعن العمل، يقول مصطفى: «هو وحدات لا تعتمد عنصر التكرار، كل قطعة مستقلة ومجاورة للقطع الأخرى، أربط العمل من خلال التنوع، كالنص الأدبي، هناك أبجدية، وكلمات ومعنى، وهذا يصنع وحدة في المساحة، عملية تأليف، التنوع يمنح الغنى».
ولد مصطفى علي في قرية رأس شمرا التي تقع على بعد تسعة كيلومترات شمال اللاذقية، حيث يوجد التل الأثري الشهير، لمدينة أوغاريت الفينيقية صاحبة الرقم الذي دُوِّنت عليه أول أبجدية في التاريخ. لكن العائلة انتقلت إلى اللاذقية ومصطفى لم يتجاوز السنتين، لتسكن في حي الرمل الشمالي... حتى إنّه لم يكتشف أنّه ولد في رأس شمرا إلا بعد تجاوز الثلاثين! لكن طوال طفولته، لم تنقطع علاقته بالمكان الأول: «أعرف التل منذ طفولتي، والمرفأ القديم على البحر الذي صار مرفأً عسكرياً على رأس ابن هانئ». شعور لا واعٍ كان يربطه برأس شمرا: «شيء ما كان يشدني إلى هذا المكان. حتى بعدما انتقلت إلى دمشق للدراسة في كلية الفنون الجميلة، كنت كلما زرت اللاذقية قصدت رأس شمرا».
كان الأب يعمل في تجارة الخضار، ثم فتح دكاناً في اللاذقية. تعلّم القراءة والكتابة متأخراً، وكان يتمتع بصوت جميل ويغني في الأعراس... كما كان يروي السير الشعبية بأسلوب مشوّق، ثم انصرف إلى الزهد والدروشة. ظهرت الميول الفنّية عند مصطفى في سن مبكرة، فبدأ بممارسة الرسم والنحت: «طفلاً كنتُ أصنع أشكالاً من الحجر الرملي الذي أجده في تل ينبت حيث الصعتر البري. لم أعرف نفسي إلا كنحّات، كنت أجمع الطمي من ضفة النهر، وأصنع التماثيل، كما كنت أصنع لُعباً من الخشب».
في اللاذقية انتسب مصطفى إلى مركز الفنون التشكيلية، عند نهاية مرحلة الدراسة الإعدادية، حيث درس الرسم والنحت. وخلال الفترة نفسها راح يقرأ بغزارة، لكنّ أسلوبه الفنّي الخاص لم يكن وليد تأثيرات ميثولوجية وتاريخية. فالأشكال المتطاولة في النحت التي اشتهر بها، كان لها مصدر آخر: «منذ المرحلة الثانوية، كنت أحاول صناعة تماثيل طولانية. وكنت حين أتمشى تحت أعمدة النور في الشارع، أراقب ظلي المتطاول. هكذا، أحببتُ الأشكال المتطاولة والنحيلة».
مع دخوله كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق عام 1975، سيجد مصطفى نفسه منفتحاً على تأثيرات عدة: «في الجامعة، تلتقي طلاباً من جميع المحافظات، لهم خلفيات مختلفة. هكذا، يحصل نوع من الاحتكاك، ويبدأ فكر بالتبلور لديك. كانت المرحلة مرحلة تصارع أفكار وتيارات وأحزاب، وكنّا موجودين داخل هذه الصراعات». ماذا كانت خيارات مصطفى الشاب حينها؟ «كنت محسوباً على اليسار، لكنني لم أنتمِ حزبياً، كل مثقف كان قريباً من اليسار».
ونسأله كيف وصل إلى لغته النحتية الخاصة؟ هل كان هذا وليد تأثيرات ثقافية؟ يفرّق الفنان السوري بين «مرحلة اللاوعي، أو اللاشعور الجمعي: إنّها ثقافة معيّنة ترثها بالجينات، أنت ابن الجغرافيا والتاريخ الخاصّين بهذه المنطقة»... وبين «مرحلة تالية تأتي حين تطّلع على الكتب وتزور المتاحف، فتقول لنفسك أنا هنا وهذا ما أنتمي إليه». ويوضح «لم أقلّد الفينيقيين أو الإتروسك (أقدم الحضارات في إيطاليا)، بل عملت على أسلوب بسيط لا يهتم بالشكل الخارجي».
تخرّج عام 1979، لكنّه لم يقم أول معارضه الفردية إلا عام 1988 «أديت الخدمة العسكرية، وعملت في الديكورات التزيينية لأعيش... لكنْ كان ثمة شيء داخلي يضغط عليّ لأمارس النحت». معرضه في صالة عشتار عام 1988 ضمّ أعمالاً متنوعة «أنجزها بين 1979 و1985: «اخترتُ منها مجموعة، وتعلّمت كيف أصبّها بمادة البرونز بنفسي. تعلّمت كل التقنيات بجهد شخصي، حتى حضّرت أول معرض وبصعوبة بالغة، إذ كنت أمر بحالة من اليأس، لكنّه كان أول معرض برونز سوري، تلك كانت الدفعة الأولى».
يرى مصطفى علي أنّه كان مِن أوائل من أدخلوا المنحوتة إلى بيوت السوريين: «هناك التباس تاريخي بين مفهوم المنحوتة والصنم، بعض الناس تجاوزوا الخوف، واقتنوا الأعمال لبيوتهم». في عام 1991، اتخذ مصطفى علي قراراً جريئاً بالسفر إلى إيطاليا لمتابعة دراسته في كرارا، بعدما حقّق شهرة إقليمية. ظروفه الشخصيّة لم تكن سهلة آنذاك: «العمر، والمسؤوليات الزوجيّة...»، إلا أنّ السنوات الخمس أو الستّ التي قضاها في إيطاليا، منحته «شحنة جديدة»، و«فرصة للتأمل والإصغاء إلى الذات والبحث في الأعماق ». فهم أكثر «كيف تجري العملية الإبداعية وكيف يجدِّد المرء نفسه». يستعيد تجربته تلك بحماسة: «إيطاليا جعلتني أعود إلى جذوري، من خلال النحت الإتروسكي القريب من النحت الفينيقي، وإيطاليا منحتني نفحة جديدة، كيف تركب عملاً وتعي بنيته التركيبية، فقدمت أفكاراً تعتمد على الفراغ والتوازن».
تغييرات كبيرة عرفتها لغة مصطفى علي النحتية، حتى وصلت إلى صورتها الراهنة «نحن نرتكز إلى جذور، لكننا نتخلص منها. لا ينبغي أن نكون مأسورين بأي شيء». فالتراث السوري القديم تحوّل إلى لغة حداثية في عمله «يبدأ تأثير الزمن بأن يزداد قوة، كل ما يحدث حولك ينعكس في تجربتك، فعمل النحات المعاصر هو ابن هذا الزمن».


5 تواريخ

1956
الولادة في رأس شمرا ـــ اللاذقية
1979
التخرّج من كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. بعدها بسنوات سافر إلى أكاديميّة الفنون الجميلة في كرارا ــــ إيطاليا، وتخرّج منها عام 1996.
1988
معرضه الفردي الأول في صالة عشتار
1997
الجائزة الذهبية في بينالي اللاذقية. بعد عشر سنوات حاز جائزة ملتقى إعمار للنحت في دبي
2008
تصميم لسطح «معهد العالم العربي» في باريس