زينة حموييلوح رمضان بيديه مودعاًً، تاركاً لنا ذخيرة من الأعمال الجيدة التي لم يجرح جمالها إلا مقص الرقيب. ولسنا هنا في معرض نقد عشوائي أو رشق للتهم، إنما نحاول تسليط بقعة ضوء على مواطن الخطأ ورمي حجر صغير في بحيرة الثقافة التي لا نريد لها أن تهدأ أو تستكين. فما إن غزت المسلسلات شاشات التلفزة (وكأنه لا تلفزيونات ولا مشاهدين إلاّ في رمضان) حتى تنشطت الرقابة والرقباء كما تنشطت المتابعة والمتابعون والنقد والنُّقاد. وكلما كثر عدد الأعمال تضاعفت ذرائع اللجان الرقابية وحججها لمنع عرض هذا العمل أو ذاك، وتفاجأنا كل يوم على مدار الشهر باسم عمل جديد أسقط تحت بند رقابي جديد.
وقد ارتأى حكماء الرقابة تأجيل عرض بعض الأعمال إلى ما بعد رمضان (ربما اعتقاداً منهم أن نسبة المشاهدة ستنخفض بعد رمضان أو أننا حتى سنرمي تلفزيوناتنا من الشرفات بانتهاء الشهر الفضيل)، وبالتالي راهنوا على وهم ساذج بأن العمل المحظور لن يصل إلّا لقلة قليلة ممن سيتابعونه، ولكنهم، في الحقيقة، إنما يحفزون شراهة المشاهد وترقبه للعمل بعد رمضان.
وفي هذا العام، صعقتنا أساليب عبقرية جديدة، حيث شهرت بعض القنوات مقصاتها واستلت مناشيرها بعد شرائها العمل من الشركة المنتجة، وبدأت تعيث حذفاً وإسقاطاً وإلغاءً بحلقات المسلسل ومشاهده (على الرغم من أن بعض الأعمال تعرض على أكثر من شاشة)، كما حدث لمسلسل «الفنار» على قناة «المنار»، وأيضاً لمسلسلي «ليس سراباً» و«بقعة ضوء» على شاشة التلفزيون الرسمي السوري.
وفيهما وصلت أفعال الرقابة إلى المساس بقيمة العمل الفنية والدرامية، ونسف فكرة جوهرية من صلب رسالته، وكثيراً ما كشفت النسخة المعدلة رقابياً لبعض الحلقات عن جهل فاضح لدى الرقباء.
فهم لا يدركون أن كل مشهد هو حجر أساسي في بناء درامي متكامل، يبنى عليه مشهد لاحق ويقوم أصلاً على مشهد سابق. ولا يقدّرون أن كل تفصيل في الصورة موظف لخدمة غرض جمالي أو درامي معين، وأن بتر مشاهد كاملة من الحلقة يسقطها في دائرة الفراغ واللامعنى (كما في بعض لوحات «بقعة ضوء»). وبالتالي يقودهم جهلهم بالفن واستهتارهم بالإبداع إلى الوقوع في فظائع أخرى ناجمة عن اعتباطية عملهم وعشوائيته وأميته، كالاستخفاف بعقول المشاهدين ومنطقهم، والاستهزاء بذكائهم، مما يعني شطب كل وظائف الدراما وأثرها التراكمي في تكوين المعرفة والتثقيف والتوعية.
الدعوة هنا ليست لتأليف لجان رقابية (جديدة ــ قديمة) في رمضان المقبل، وليست لإعادة النظر بمهمات اللجان الرقابية وصلاحياتها فقط، وليست اقتراحاً لسنّ ضوابط موضوعية وفنية دقيقة توضح الخطوط الحمر من غيرها من الألوان، وليست توسّلاً لاختيار الرقباء من النقاد والمثقفين والاختصاصيين، بل هي دعوة للأخذ بالاعتبار وترك شيء من المهمة للرقيب الداخلي الجاثم على أدمغتنا.
هذا الرقيب الذي زرعوه عندما اغتصبوا عقولنا وبذروا فيها بذار الخوف. الرقيب الداخلي الذي نما وتضخم عندما كبّلوا أفكارنا وإبداعنا بالتردد والقلق، وعندما نصبوا في حقول العمل والفن فزّاعة الملاحقة والمحاسبة والقصاص.
أما المبدعون الناجون من عمليات اغتصاب العقول وإرهاب الأفكار، فهؤلاء هم الرقباء الحقيقيون، لا تحكم أعمالهم ولا تحدّها إلا رقابة الضمير الحي والوعي المسؤول. رقابة بنتها وراكمتها إنسانيتهم وثقافتهم وإدراكهم لخصائص كل مجتمع وحساسية كل
مرحلة.
رقابتنا قادرة بمفردها أن تحمي وتصون ما تزعمه اللجان الرقابية عن دورها في مراعاة الذوق العام والابتعاد عن خدش الحياء وإيذاء المشاعر، أو المحافظة على القيم والتقاليد الأصيلة الموروثة، أو تجنب إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والحفاظ على الوحدة الوطنية. لذا ثقوا برقابة ضمائرنا وارفعوا عنا رقاباتكم.