بيار أبي صعبذات يوم مشؤوم من صيف 2005، خلال مهرجان لفرق الهواة في بني سويف (100 كلم جنوبي القاهرة)، اندلع حريق فظيع ذهب ضحيّته عشرات الفنانين والنقاد والكتاب الشباب الذين كانوا يجسّدون نواة المسرح المصري البديل. تلك الكارثة عُدّت حينذاك تعبيراً صارخاً عن حالة الانهيار والتآكل التي وصلت إليها المؤسسة الرسميّة في مصر: من البيروقراطيّة والفساد والإهمال، إلى التعامل الفوقي والقمعي مع العامة. تحدث المثقفون عن احتقار السلطة المركزيّة للثقافة الحيّة، لأهل الأقاليم والمحافظات، لـ«الناس اللي تحت»، لفناني الهامش المتروكين بعيداً عن أضواء... «المسرح القومي»!
كان ذلك قبل ثلاث سنوات فقط. لكن ما عسانا نقول اليوم، و«المسرح القومي» نفسه ـــ رمز المؤسسة الثقافيّة والقطاع العام ـــ بات عرضة للنيران التي قضت قبل ثلاثة أيام على صالته الكبرى وبعض مخازنه؟ حتى قدس أقداس الثقافة الرسميّة التي تنعم بكلّ الامتيازات، لم ينجُ من تلك النيران اللعينة: إنّه حريق مجازي بامتياز! لقد تواصل الانهيار منذ بني سويف، على مختلف الصّعد الاقتصاديّة والاجتماعيّة، السياسيّة والثقافيّة. الديموقراطيّة المريضة التي تسجن الصحافيين، وتترك الناس يموتون في العشوائيات، مصابة في صميمها. خلال أسابيع قليلة، قضت النيران على مبنى مجلس الشورى في القاهرة، ثم جاء دور «القومي». البرلمان والمسرح، أهم ركيزتين في أي ديموقراطيّة: هنا وهناك يُتَداوَل في شؤون الأمة، وتسمع كلمة الشعب.
«المسرح القومي» ذاكرة مصر. «تياترو الأزبكيّة» بناه الخديوي إسماعيل في عام 1869 ليستضيف فرقة موليير العريقة الـ«كوميدي فرانسيز»، ثم جاءه من دمشق أبو خليل القباني، وعبَرَه الشيخ سلامة حجازي. أيام مواجهة الاستعمار صار «المسرح الوطني». في عام 1935 أعاد طلعت حرب بناءه ليحتضن الفرقة القومية بإشراف خليل مطران. جورج أبيض وزكي طليمات عبرا من هنا... بعد ثورة يوليو اكتسب اسمه الحالي، وتألقت فيه منذ الخمسينيات أسماء كتّاب ومخرجين وممثلين صنعوا العصر الذهبي للمسرح العربي، من نعمان عاشور إلى ألفرد فرج، من سعد أردش إلى كرم مطاوع، سميحة أيوب وحسين فهمي وعزت العلايلي ويحيى الفخراني.
اليوم صار المسرح رماداً. إنّه زمن الشؤم، والطاعون يحاصر أهل طيبة. من ينقذ مصر من لعنة الزمن العربي الرديء؟