رائد شرف*من قرأ الدردشة مع أمير الحرب الإقطاعي في «الأخبار»، ومن لم يفاجأ للمرة الألف أمام تقلباته، يلحظ الأمور الآتية:
١) بدل الاندهاش الفارغ أمام كلّ نقلة نوعيّة في التوجهات السياسية لأمير الحرب الإقطاعي، يجب التوقّف عند الظروف المؤاتية والمتكرّرة لهذه التقلّبات. تجربة النقلة الأخيرة تثبت أكثر من أي وقت مضى أن حصول هذه النقلات في التوجه السياسي لم تكن واردة لولا ثقافة سياسية عامة عند الطبقة السياسية من «معارضة» و«موالاة»، متماهية مع هذه التقلبات، لا بل مشجعة لها. هذه الثقافة السياسية نفسها التي تشاء أن تفسر سهولة هذه التقلبات عند أمير الحرب الإقطاعي بتبعية عمياء له عند «جمهوره» الطائفي. من هنا يجب دائماً التصحيح للسياسي المقتنع بحنكته في قراءة «موازين القوى»، عندما يحمد الله لعودة أمير الحرب الإقطاعي إلى «رشده» ويطلب تفهم الحلفاء وتقبّلهم له، لأنه من «بيت سياسي» أو «ركن» وطني أو طائفي. يجب القول لهذا السياسي إنه مخطئ ومجرم. مجرم لأنه مساهم في جعل صورة جمهور أمير الحرب الإقطاعي صورة «قطعان» و«تبعيين»، كما يروق لأمير الحرب الإقطاعي أن يقول عن جمهور غيره. ومجرم هو لإعطائه فرصة لأمير الحرب الإقطاعي لتثبيت مكانته الإقطاعية عند جمهوره. لا ينخدعنّ أحد بطبيعة التبعيّة الطائفيّة لأمير الحرب الإقطاعي، فهي، وكما في باقي التبعيات، نتيجة أسر لجمهور ما، بين سلطان الإقطاع المالي (والمتحالف مع رأس المال) وتماهي الآخرين مع سلطان الإقطاع. «الدروز» كما يسمونهم، هم أسرى مرتين، أسرى الإقطاع وأسرى سمعتهم. علاقات أسر مزدوجة يسميها الخطاب السياسي «الأمر الواقع الوطني» أو «الطائفي» حسب ظروف المواجهة. في نهاية المطاف، أليست ميزة «الأمر الواقع الوطني» التي يريدها حزب الله لنفسه كما للإقطاعي؟
٢) لكن الدردشة الصحافية الأخيرة تظهر أكثر من ذلك. لقد شاء أمير الحرب الإقطاعي أن ينعت حلفاءه هذه المرة بصفات القطعان، «الجمال» حيث «الجميع يمشي مع الجميع». ويعني في ذلك حلفاءه من فريق المستقبل، أي مثقّفيه وكوادره. فهل يصح القول في حال هؤلاء أن السحر انقلب على جمهور الساحر؟
٣) يصح على علاقة من امتهن الثقافة في تيار ١٤ آذار بأمير الحرب الإقطاعي الوصف الذي كتبه كارل ماركس في كتابه «الحرب الأهلية في فرنسا» عن علاقة الصحافة والبورجوازية بالسياسي أدولف تييرس. هو، يقول ماركس بغضب من نفد صبره، «سَحَرَ البورجوازية على مدى نصف قرن، لأنه يمثل التعبير الثقافي الأكثر اكتمالاً لفساد هذه البورجوازية الطبقي».
ألم نسمع جميعاً أناساً يقولون في إطار مناقشة سياسية إنهم يجدون أمير الحرب الإقطاعي «مهضوماً» أو «مسلّياً»؟ وهناك من يرى فيه «الجريء»، فهو من تقدّم للردّ على السيّد حسن نصر الله عن طريق «السخرية» من «إلهية» انتصار صيف ٢٠٠٦ والعنصرية تجاه جمهور المقاومة. جميعها أمثلة على علاقة «ذوق» (لا عقل) تربط أمير الحرب الإقطاعي بجمهور من اللبنانيين قد لا ينتخب في الشوف أو في عاليه، وبالتالي ليس رهينة مباشرة لنظام الإقطاع والزبائنية الذي يسود هذه المناطق. علاقة حافظت على بنيتها مجموعة من «المثقفين»، مِمّن امتهن «الكلمة» و«التأريخ» وغيرها من مهن «وضع النقاط على الحروف»، أو بالاستعارة من بيار بورديو، مهن «العنف الرمزي».
ووجه الفساد والانحطاط يبرز هنا عند من كان في خندق «الحركة الوطنية» في السبعينيات من القرن الماضي، وانحدر خطابه مع انحدار أداء «الحركة الوطنية» من رفع شعارات «التحرر الوطني» إلى رفع شعارات التحرّر من الخطاب القومي العربي، التحرر من «شبهة التعامل مع العدو» (تحريفاً لشبهة التعامل مع رأس المال)، التحرر من الشعب إن جاز القول. قصتهم قصة حياكة علاقة ثقافية مع مجتمع أفسده دخول الميليشيات ومسوقها الرأس المالي، وتغيرت قيمه، فشاء مثقفونا أن يبقوا على قيمتهم الاجتماعية فيه، على تسمية «المثقف» (وكم نعاني من التفسيرات بشأن دور المثقف، ونسينا أن مقال إميل زولا كان إعلان حق المثقف في إبداء رأيه لاستقلاليته عن السلطة قبل كل شيء). لم يجربوا العزلة، فالوضع المعيشي لا يطاق، ولم يجربوا مقاومة سلطة الفساد، فالميليشيات كانت بالمرصاد. هنا ننبه من أن البعض نجح في الانكفاء والمقاومة. الفرق أننا لا نراهم، فهم فقدوا موقعهم الثقافي. فهل يشك أحد بأن «شعب اليسار» و«شعب العروبة» في لبنان، كأي مجموعة قمعتها الحرب، ولّد طاقات ثقافية أكثر عدداً من مجموعات «محبّي الحياة» وتوابعهم في «الثقافة المتحررة» الخاطفة للأضواء؟
من هنا نعود إلى موضوع أمير الحرب الإقطاعي. شاءت ظروف «الوراثة السياسية» أن يكون حليفاً لبعض المثقفين. يتبنى أحدهم في كتابه شعار أمير الحرب عن «الانعزال الجديد»، أي «الشيعي»، وبالمقابل يحجز أمير الحرب «الوفي لنضال الماضي» مقعداً نيابياً لأحد رؤوس منتحلي صفة «اليسار» في لائحة «زي ما هيّي». كلّ شيء بدا على ما يرام، لثلاث سنوات من الأزمة السياسية والمواجهات المفتوحة، إلى أن وصلت البلاد إلى هزيمة أمير الحرب الإقطاعي العسكرية. فظهر على حقيقته (نكرّر، للمرة الألف)، إقطاعياً في التسويات، وإقطاعياً في تعاطيه مع ضعفاء فريقه. يبرز سلطانه عبر قمع حماسة من أشعل هو حماستهم، من نواب وإعلاميين. فهل يدرك مثقّفو ١٤ آذار، في هذه الظروف، حقيقة علاقتهم بأمير الحرب الإقطاعي؟ حقيقة علاقة شرطها الأول التبعية والرضوخ لمزاج سلطانه. السؤال يصح أيضاً لسياسيي ١٤ آذار الضعفاء الوزن، الملتحقين بخندق الإقطاع ورأس المال.
هل يفهم كل هؤلاء أن سبب التحاق زملائهم من مثقفين وسياسيين مستقلين بالمقاومة، بالرغم من أداء حزب الله الركيك في «الثقافة» بمرتكزاتها المعولمة، يعود لخيار أولويات بشأن الوجود أو الفناء أمام عدو عنصري؟ علماً بأن السياسات الثقافية والإنمائية لا تقل أهمية عن سياسة الحرب العسكرية، وحزب الله وفريق أمراء الحرب والإقطاع غير مبالين في تدعيمها.
٤) يلاحظ أخيراً في دردشة أمير الحرب الإقطاعي الحيلة التالية. هو يعود، في ما نشر في آخر المقابلة، إلى مسألة الذوق الثقافي، ليقول إن الصحف اللبنانية لم تعد تستهويه. صحف، قد يوافقنا الجميع بالقول إنّ احتلال أمير الحرب الإقطاعي لمساحاتها هو الذي أفسد من تنوّعها وربما من «جودتها». يحبّ أمير الحرب الإقطاعي أن يقدم نفسه كمثقف. فهو يعدد أسماء الإعلاميين (تعداد فيه من «الإصبع البوليسي» الثقافي أكثر منه تنوّع فكر أدبي الهوى)، وهو، يا لظرافته، يجمع رسوم الكاريكاتور. حيلة تقدّم صورة رومانسية لشخصه تنسجم مع الفكر الاستشراقي الذي يدعو، على مستوى المحاججة البورجوازية الكولونياليّة في لبنان، إلى استيعاب أمير الحرب الإقطاعي كحالة «فريدة وغامضة من ظاهرات هذا الشرق» (جميعنا يتذكر «هم غزوا ونحن غزونا» والتبرير عن طريق «عاداتنا العربية» في المجزرة). المؤسف أن هذه الحيلة تمر مرور الكرام، في بلاد الموز والتفاح. لا بل هي إحدى قواعد هيمنة أمير الحرب الإقطاعي على نفوس البعض. فمثلاً، كيف نفسّر بغير ذلك فكرة اصطحاب نعوم شومسكي عند أمير الحرب، حين زار الأوّل لبنان؟ زيارة تضع في الخانة نفسها إنساناً وضع المبادئ فوق الكون كله (يرى شومسكي في إحدى المقابلات أن نضاله السياسي مستقل عن نتائج أبحاثه العلمية)، وإنسان وضع نفسه فوق كل مبدأ. استفاد أمير الحرب من هذه الدعاية، وسمح لنفسه بعدها بأن يصرح بأن شومسكي لا يفهم الكثير في شؤون المنطقة (ربما فشل شومسكي في امتحان «الخبرات العسكرية» ولم يحزر عدد البرادات المنزلية التي احتجزتها ميليشيات أمير الحرب أثناء حروبه). فضرب الإقطاعي «العصفور بحجرين»، إن صح قلب الاستعارة، و«العصفور» هنا جمهور المثقفين: هو «مثقف» مثلهم و«قريب عالقلب» وهو «عالمي»، لاعباً على وتر «عقدة نقص» من الغرب يتشارك وجمهوره بها.
هو الوتر نفسه، الاستعلاء الثقافي بالغرب، الذي يعيد إبرازه أمير الحرب الإقطاعي، حين يخونه سلاحه الميليشيوي. يعود إلى قراءة الصحف الأجنبية. فهل من مثقفٍ يصدقه هذه المرة؟ غير الشهيد الحي...
* باحث لبناني