بدر الإبراهيم*ويترتب على هذا الأمر إطلاق أصحاب هذا الخطاب الدعوة إلى مساندة عمر البشير ونظامه (الوطني) في وجه الحملة الغربية المتآمرة على ثروات الأمة ومقدراتها، وإعطاء هذا النظام شهادة براءة من أعماله القمعية.
لا يمكن تخطئة هذا الخطاب بالكامل، فهو يتحدث عن حقائق نعايشها من حيث انتقائية العدالة الدولية وتسييس عمل المنظمات الدولية، بما يجعل إسرائيل وأميركا فوق المحاسبة، وأيضاً يمكن ملاحظة التدخل الخارجي في قضية دارفور من جانب الأميركيين خدمة لمصالحهم الاستراتيجية، إلا أن هذا كله لا يبرر بأي حال هذا التهميش للواقع الإنساني الصعب في دارفور، ولا يجعل الأميركيين مسؤولين عن (كل) ما يحصل، كما لا يجعل البشير بريئاً ولا بطلاً مدافعاً عن السيادة والاستقلال ضد طغاة العصر. يبدو أن الحاجة ملحّة لإعادة صياغة مفهوم السيادة في الذهنية العربية، فهل السيادة تعني سيادة النظام على أرضه وشعبه أم إنها سيادة الشعب على أرضه ممثلاً بنظام يمنحه هو الشرعية ولا يُفرض عليه بالقوة؟ وهل تعني السيادة أن يكون النظام حراً في تحويل أرضه إلى سجن كبير لتعذيب شعبه؟ إن مفهوم ربط السيادة بالنظام والزعيم يعود إلى مفهوم اختصار الوطن بأكمله بشخص الزعيم، ليصبح الاعتداء على الزعيم مرادفاً للاعتداء على الوطن، برغم أن كثيراً من الزعماء العرب لا يمثلون إرادة شعوبهم، وبالتالي لا يمثلون رموزاً للسيادة الوطنية.
وفي ما يتعلق بالمؤامرة الخارجية، فالملاحظ أن أنظمة الاستبداد العربية تعطي بغبائها السياسي موطئ قدم للخارج في بلدانها، كما أن هذه الأنظمة هي إما تقدم خدمات كبيرة للمشاريع الاستعمارية بقصد أو دون قصد، وإما متخاذلة عن مواجهة هذه المشاريع حتى تُفرض عليها المواجهة كأمر واقع وتتعلق المسألة بوجودها من عدمه، وفيما عدا إطلاق الشعارات الفارغة من الأفعال في وجه الصهيونية والاستعمار، لا نلاحظ أي عمل جاد لهذه الأنظمة ضد الصهيونية حتى تكال لها المدائح من بعض الكتّاب العرب ومن سار وراءهم. إن المسألة برمتها هي مسألة عاطفية بحتة قائمة على عداء أعمى للسياسة الغربية، يمنع هؤلاء من رؤية الصورة بزواياها المختلفة.
لقد ساهم تغييب الأنسنة (بأبعادها المتخطية للتصنيفات العرقية والطائفية المختلفة) لمصلحة الأيديولوجيا في الخطاب الثقافي العربي، كما ساهم التعوّد العربي على مسألة القتل والتعذيب والاستبداد السياسي في كمية اللامبالاة الهائلة التي تواجه بها الشعوب العربية المآسي الإنسانية، وبالتالي عدم إعطائها الاهتمام الكافي، والشواهد مستمرة، ولن تكون آخرها القضية السودانية، على غياب ثقافة حقوق الإنسان عن الوعي السياسي والثقافي العربي، بما يجعل هذه الشعوب عرضة للانتهاكات المستمرة للكرامة الإنسانية.
وبالعودة إلى المسألة السودانية، نجد أن الرأي العام العربي قابلها منذ البداية بلامبالاة واضحة كما فعل ذلك الإعلام العربي، في مقابل اهتمام إعلامي غربي واضح بقضية دارفور على وجه التحديد. لقد حظيت قضية دارفور باهتمام إنساني عالمي على مستوى المنظمات الأهلية والأفراد في الغرب، فيما صمتت ولم تتحرك المنظمات الأهلية والأحزاب العربية لنجدة السودانيين أو حتى للتبرع لهم، لا في السابق ولا حالياً، ما خلا محاولة أو اثنتين معزولتين. إن تحميل الأنظمة العربية الرسمية والغرب السياسي مسؤولية كل ما يحدث من مآسٍ في العالم العربي لا يعفي الشعوب من تحمل مسؤولياتها عن كل الأوضاع العربية المتردية، ولعل أهمها بقاء أنظمة رسمية متعفنة في سدة الحكم! ولا بد من الإشارة إلى أن المأساة الإنسانية في السودان لم تبدأ بالأمس بل منذ أمد بعيد، والسودانيون يعانون من آثار الحروب الأهلية المستمرة على أرضهم، في ظل نظام لا يفهم فكرة المواطنة ويعتقد أن المسائل كلها يمكن أن تحل بالقوة العسكرية، وفي حين يُعدّ التدخل الخارجي المفهومة أجندته مرفوضاً، فيجب عدم اعتبار (مبدأ) محاسبة الأنظمة القمعية مرفوضاً، ويجب عدم تحويلها في نظر الناس إلى أنظمة وطنية مدافعة عن السيادة، كي لا تصبح السيادة جزءاً من خطاب اعتذاري تلميعي لأنظمة القمع والبطش، بما يمنح الاستبداد والقمع استمرارية في الثقافة والممارسة العربيتين.
* كاتب سعودي