أنسي الحاج... وماذا لو، بَدَل الرصانة، قلتَ: أهمّ ما في المرأة أنّها فاكهة؟
على قول عامر بن الطفيل:
وجئنا بالنساء، مردَّفاتٍ
وأذوادٍ، فكنَّ لنا طعاما؟...
وأن مظهر «ظهورهنَّ» جوهري بين دواعي «حبّنا» لهنّ؟
وأنّك، خارج الطقوس العريقة والمتجدّدة لإثارة الرغبة، خارج المهرجان الباهر من الشَّعْر والكحل والحمرة والبودرة والعطر والإيحاء والقماش والتخبئة والتعرية والغموض والالتباس وما يُظننكَ أنّها ليست بشراً مثلك إلّا، وتقريباً، في «الخطيئة»، لا ترى شيئاً؟
وأنهنَّ، بلا هذا «الهراء» كما تسمّيه النسويات المتفرعنات، لا يعود يفصلهنّ عن الرجل إلّا العنصر المخلوق؟
والعنصر المخلوق، كما تعرفين، ينتمي إلى الطبيعة لا إلى المدنيّة. وعلى الصعيد الجسدي البحت، الطبيعة إذا اكتفينا بها، لا تُشهّي كثيراً...
وإذا رَضَخنا لمشيئات الطبيعة وتخلّينا عن «إضافاتنا»، أين يصبح، مثلاً، عنصر خطير في جميع الحالات كعنصر سوء الفهم؟
سوء الفهم بين الجنسين، الذي هو أساس قانون التجاذب، أساس ذلك الالتباس الذي بدونه لا تنشأ رغبة في الفهم وفي التقارب، ولو أدّيا إلى الفراق والتباعد، فراق وتباعد يؤديان بدورهما إلى رغبة متجدّدة في ملء الفراغ؟
... المقصود بهذا الكلام (وهو في غير محلّه، على جاري العادة) هو ذاته دوماً: كلّما حاولتْ المرأة أن ترمي بعيداً أدوات «التنكّر» (وهو الذي يعطيها البعد الأنثوي المضاف، «الأدبي»، «الغنائي»، الذي منه على الأخصّ يتكوَّن الحجم الخياليّ الإيروتيكي المضاف إلى رغبة الرجل المحض غريزية، وهي المحدودة أساساً) كلّما حاولت المرأة الانقلاب على الخدع التي تُغَرّبها وتُشَيطنها في الذهن الذكَري، وَجَبَ مَنْعُها وإعادة تربيتها!
لا أحد يعرف مَن عَلَّم الآخر في البدء فنون نكش أرض خياله، الرجل أم المرأة.
أقصد الرغبة التي تُعمّر أكثر من شَبَقها، وتُبدع للجنس الآخر صورة في الحلم تجعله فوق شبهة الملل.
... المهمّ مَن حفظ الأمانة ويَحْفظها.
إنّه الرجل.
لقد أدّى تحرّر المرأة الاجتماعي والسياسي إلى مكاسب لها، ولكنه دفَّعها ثمناً يجب أن تتداركه إن هي أرادت لميزان الرغبة أن يواصل لُعبته: دفَّعها ثمن انهيار ستارها الحريري.
أصبحتْ تمارس علناً وجودها العاديّ.
وجودها الضحل، الفقير التوهّج لأنه عديم المسافة. وجودها «الواقعي» اليومي المباشر، بما فيه مما يُحبط شوق الرجل إليها ويدمّر «أوهامه».
ولا تصرخْ هنا مناضلة أنّه إذا كان شوق الرجل سيقوم على رفضه رؤية واقع المرأة فعمره هذا الشوق لا يكون!
لأن هذا هو منطق الخسارة بحجّة الربح، منطق الإمعان في قتل الذات عبْر قَتْل الآخر، ومنطق جهل المرأة لمهمّة الخيال الذي صنع لها تلك الصورة «القديمة»: صورة الكائن المرغوب بقوّة تجعل الراغب يطيح، لبلوغها، حواجز العالم وحدود عقله هو.
إنْ لم تكن المرأة سرّاً فما حاجة الرجل، روحاً وعقلاً لا غرائز فقط، إليها؟ إن لم تكن الحياة، الحياة كلّها، سرّاً، فما حاجة الكائنات إليها وما حاجتها هي إلى الكائنات؟
قديماً اعتُبرَ اتّصال الرجل بالمرأة خطيئة، لأنّه انتهك سرّاً، فهل يكون الإنسان قد عوقب بالموت منذ الأزل على لا شيء!؟
يجب أن نُعلّم النساء من جديد.
أخذتْ المرأة حرّيتها، ولتأخذْها قَدْر ما تريد حيث تريد، إلّا في التساوي بـ«نَثْريّة» الرجل.
بابتذاله واندلاقه إلى الخارج، بافتقاره إلى «الأشكال» و«الظلال».
بالعكس، يجب أن تعطيه هي المَثَل في الجذب حتّى يزداد سعياً إليها ويتخلّى عمّا يُنفّرها فيه ولا تجرؤ، أو لا تعرف أن تُخلّصه منه.
يجب أن تعود المرأة وتولد من خيال الشعراء.


مَلاَكَة

بما أن الملاك كائنٌ لا جنسيّ فلماذا لا نعتمد «مَلاَكَةَ» لبعض الحالات؟
«مَلاَكَةٌ عابثة» أجمل من «ملاكٍ عابث»، فالأخير سبقه أحد رؤساء الملائكة، المدعو إبليس، وأوغل في العبث. الملاكة إعادة حقٍّ إلى حقٍّ يُراد به باطل أحلى منه.

الراجمون والزانية

«مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه المرأة بحجر» قالها يسوع الناصري لقومٍ كانوا يهمّون برجم الزانية. يقول الإنجيل إنّهم جميعاً انصرفوا ملقين حجارتهم أرضاً، أي إنّهم أقرّوا جميعاً بأنهم خاطئون. أقرّوا مخيَّرين وفي صمت، ولم يكابر أحد.
هذه الرواية يعود فيها الفضل للطرفين. الناصريّ والقوم. لولا صدقهم لخُذِلَ الواعظ ولما تَحقَّقَ الدرس. هنا ليس الإيمان هو الحافز ولا الطمع بمعجزة، بل الأمانة. الزانية كانت مظلومة بالناموس، والراجمون كانوا مظلومين بالناموس. لولا حكمة المسيح لما نجت المرأة، ولولا صدْقُ الجمهور لما «نجا» المسيح بكلمته.


نصيحة رولان بارت

ينصح رولان بارت، الكاتب الفرنسي الذي سرّح بصيرته في موضوعات مختلفة إلى حدّ كانت تبدو معه بلا رابط يجمعها غير شموليّة نظرته ـــــ ينصح للقرّاء بأن يطالعوا الكتابَ مطالعةَ المزمزة، لا التهام ولا ابتلاع، «وأن يستعيدوا، أمام كتب مؤلّفي اليوم، تأنّي المطالعات القديمة: أن يكونوا قرّاء أرستقراطيين». من أجل ما كان يسمّيه متعة النص، لا متعة كاتبه، ولا متعة قارئه وحده، بل متعة الفسحة الاستمتاعيّة التي يخلقها النص بينهما. ذلك هو ترفٌ أُعطيَ للإنسان مجاناً، شرط أن يكون على مزاجٍ مناسب. وما يتمنّاه بارت قد يَتحقق بتوصيةٍ وبلا توصية إن أملاه الطبع، وقد يستحيل تحقيق شيء منه إذا خُلِقَ المرء شرهاً، مستعجلاً. وهناك أنواعٌ من المكتوبات لا يصحّ معها التمهُّل لأنّها هي لا تريده، فلغة صاحبها تجرف أو تتطاير، أو أن ما يقوله يستدعي النَّهَم كما تستدعي الرياح خَفْقَ الشراع. الحقّ أنّ المزمزة ليست صفة الأرستقراطيين بقدر ما هي سمةُ الأبيقوريين، وحتى هؤلاء لا يُعْدَمون الأمزجة الناريّة التي تلتهم ولا تتوقّف.
يحلم الكاتب بقارئٍ «يُقدّره»، يَخْلع على كلماته أصناف كرمه، يطالعه على خلفيّة أنغام خَفيّة تمنح كل حرفٍ من حروفه أصداءً لا نهاية لها. للكاتب أن يتمنّى. هذا شأن من شؤون وَهْمه الحيويّ. ولكن الكاتب لن يحظى بغير أصدقاء. من حسن حظّه أنّه لا يعرف جمهوره، فذلك يجعله يأمل في المستحيل. غير أن الكاتب مهما فعل لن يحظى من القرّاء بغير الأصدقاء، الذين يجهلهم والذين قد لا يريدهم. حين يقرأونه ويعيدون فهؤلاء أصدقاؤه. وأصدقاء المرء يولدون معه لحظة يولد، حتّى لو ولدوا بعد موته بعصور.