إيلي شلهوبعبرت تركيا، قبل أيام، وبنجاح، اختباراً مفصلياً، قضائي الشكل، سياسي الخلفية، وجودي الأبعاد، يمكن اعتباره حجر زاوية لمسار يعيد بناء هوية هذا البلد، المتخبّط بين علمانية موروثة يحميها العسكر وتحتضنها النخب المدينية، وثقافة إسلامية الطابع يحتضنها العمق الريفي ويعبّر عنها حزب «العدالة والتنمية».
حكم قضائي لم يحظر حزب رجب طيب أدوغان، خلافاً لما اعتادته البلاد في العقود السابقة، قد يكون الأشد تعبيراً عن ماهية النهاية المأمولة لصراع بدأ مع سقوط السلطنة، وشكلت الانقلابات وحظر الأحزاب معالمه الرئيسة. قرار محكمة يعكس، بالحد الأدنى، عجز الاستبليشمنت التركي عن الوقوف في وجه المد الشعبي لهذا الحزب، الإسلامي الجذور، المحافظ الطابع، المعتدل إيديولوجياً، الإصلاحي التوجه، الأوّروبي النزعة، التوسعي الطموح.
حكاية بدأت قبل نحو ست سنوات، في أوج الأزمة الاقتصادية التركية، عندما حقق «العدالة والتنمية» فوزاً كاسحاً على حساب الأحزاب القومية والعلمانية التركية التقليدية. سنوات استطاع خلالها النهوض بتركيا مجدداً، حاصداً حب الأتراك لما وفرته لهم عهوده من تقديمات اجتماعية، وثناء المؤسسات المالية الدولية لمدى التزامه معاييرها، واحترام الاتحاد الأوروبي لثباته على الاستجابة لمتطلباته رغم المعوقات، ودعم الولايات المتحدة، التي رأت فيه نموذجاً للمنطقة، رغم معارضته للكثير من سياساتها.
بل أكثر من ذلك. أعاد حزب أردوغان بلاده إلى محيطها الإسلامي، متجاوزاً عقدة الأتراك من العرب، وألبسها دوراً إقليمياً، تحظى من خلاله باحترام الكل، وبينهم إسرائيل، ودعم عواصم القرار جميعها.
ذلك كله جرى في وقت كانت قلاع العلمانية التركية تسقط الواحدة تلو الأخرى صريعة بين يديه، بداية بالبرلمان والحكومة وانتهاءً برئاسة الجمهورية، مروراً بأجهزة الشرطة، في ظل معركة على القضاء ووسائل الإعلام والأجهزة التربوية.
صراع أداره ببراغماتية متناهية، مدعوماً بمتغيرات اجتماعية ــــ اقتصادية، عمادها نزوح سكان الأرياف نحو المدن طلباً للعلم والارتقاء الاجتماعي، فيما كانت النخب العلمانية وجنرالاتها يفقدون بريقهم الخارجي مع المتغيرات الدولية ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهجمات الحادي عشر من أيلول.
قرار محكمة تُظهر حيثياته وظروفه إشارات إلى نضوج في تركيا، يُبشّر باستعدادها للتصالح مع نفسها ومع تاريخها.