إذا كان الثلث المعطّل هو المسؤول عن المجيء بهذه الحكومة، فلا كان ولا كانت المطالبات والاحتجاجات التي رافقته. يكفي أنّ الحكومة أبقت السنيورة رئيساً لها، رغم ما حَكَمَ تجربتَه ووزارته من شوائب، كي لا نقول أكثر ونُخلّ بالمناخ الوفاقي الزائف الذي ساد بعد تنصيب الجامعة العربية رئيس الجمهوريّة
أسعد أبو خليل *
الزيف والرياء يحيطان بخطاب الأطراف اللبنانيين كافةً، وبخطاب الأطراف الأجانب الذين يتعاطون ببراءة ومحبّة شديدين بالشأن اللبناني. فالسفير المصري في لبنان بات يردّد المعزوفة السعوديّة المعروفة، أن دولتَه «هي (الأخرى) على مسافة واحدة من جميع الأطراف»، مثلما أميركا هي الراعي الحيادي في الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، ومثلما يستنكر سعد الحريري، في ما يُكتب له من بسيط الكلام، الطائفيّة والمذهبيّة. والياس المرّ يؤكّدُ أن تأييدَه لأميركا نابع من تأييد أميركا للبنان فقط. وهو على ما يبدو لم يلاحظ دعمَ أميركا لعدوان إسرائيل على لبنان وعلى جيش لبنان في حرب تموز. لكن هذا الياس المرّ (وسنعود إليه). وسفيرة أميركا الجديدة أفتت من واشنطن أن سمير القنطار ليس بطلاً.
ماذا لو أصرّ السفير السوري الجديد في لبنان (رستم غزالة، مثلاً، وهو صديق لقطاع كبير من فريق 14 آذار وقد يسبغ عليه المؤرّخ حسان الحلاق دكتوراه جديدة في الإنسانيّات هذه المرّة) على ممارسة صلاحيّاتِه الدبلوماسيّة على نسق زميلتِه، سفيرة أميركا في لبنان؟ ماذا لو جال على الوزارات كما يقوم سفير أميركا في لبنان، وأعطى النصحَ في كيفيّة معالجة الحكومة كلّ ملفّاتها الداخليّة والخارجيّة على حدّ سواء؟ ثم لو عاد رستم غزالة سفيراً ممتازاً وفوق العادة لسوريا، هل تتجدّد صداقته مع الياس المرّ ومع البابا ميشال المرّ، الذي يزهو بابنه البكر بمناسبة وبغير مناسبة لأسباب تخفى على من يشاهد الياس المرّ يتحدّث (ببطء مملّ وقاتل)، إلا في موضوع عَبَدة الشيطان؟ وبطريرك الموارنة عاد من جولته هازجاً وهاتفاً ضد أية مقاومة ضد إسرائيل. واعترف بجواز المقاومة «السلميّة»، أي بنثر الأرزّ والورود على الجيش الإسرائيلي عندما يجتاح لبنان. والمقاومة السلميّة بحساب صفير حرّرت أوطاناً مثل الجزائر وفيتنام وفرنسا ومستعمرات إمبراطوريّة غابت عنها الشمس والقمر. وهو لا يحرّك ساكناً تقريباً إزاء اعتداءات إسرائيل واحتلالاتها واجتياحاتها للبنان. لكنه للحق يكرّر نظرية جديدة له عن أصول الديموقراطيّة، متحدّثاً عن ضرورة حكم الأكثريّة من دون الأقليّة. ولكن لم يسألْه أحد بعد عن صلاحية النظريّة فيما لو اتّفق السنّة والشيعة في لبنان؟ هل سيقبل عندها بتطبيق نظريّته عينَها في الديموقراطيّة (والتي ستؤدّي إلى انفراد المسلمين بالحكم)؟ وهذا ينطبق على معارضته للثلث المعطّل، فالبطريرك، من دون أن يدري، سوّغ للحكم الإسلامي المتفرّد في لبنان مستقبلاً، وهو آتٍ لا محالة. هذا هو التعريف القاموسي لقصر النظر.
وأسوأ ما في الحكومة، على كثرة سيّئاتها قبل أن تباشر عملها، عودة السنيورة. والرجل جمع من المساوئ كمّاً هائلاً، من ملف (سوء) إدارته لوزارة المال وهوسه بضرورة زيادة إفقار الفقير وإدخال رأسماليّة متوحّشة حريريّة إلى لبنان (وإن كان يحاول أن يحسّن صورتَه لدى الصحافة عندما كان يقول لبعض الإعلاميّين إنه لا يوافق على تطرّف الحريري الرأسمالي، على ما روى لي الراحل جوزف سماحة ذات مرّة والذي قال له السنيورة يوماً إن رفيق الحريري فقدَ عقله)، إلى موقفه المشين والمتخاذل أثناء العدوان على لبنان. ومن دون إطلاق الأوصاف ومن دون الاستعانة بأحكام القانون اللبناني في التعاطي مع دولة عدوّة، يمكن القول إن التاريخ سيذكر السنيورة كما يذكر تاريخ فرنسا بيار لافال، الذي كان يساريّاً في ماضيه الغابر. سيذكر التاريخ أن أعداء لبنان أثناء العدوان (من أميركا إلى إسرائيل نفسها، بالإضافة إلى حليف الاثنيْن الجديد، آل سعود الذين لم ينفوا ما ورد في الصحافة الإسرائيليّة أخيراً عن تنسيق دوري بين حكومة إسرائيل وحكومة المملكة التي تروّج للحوار بين الأديان، مع أنها استثنت موارنة لبنان، فيما هي تقيم أكثر أنظمة الحكم تزمّتاً وقمعاً وسوداويّة، وإن كان وليد جنبلاط ورضوان السيّد وإعلام آل سعود أجمعوا على حكمة ملك السعوديّة وتسامحه، أصرّوا على أن إبقاء السنيورة في كرسيّه بات يمثّل أمراً حيويّاً في السياسة الخارجيّة الأميركيّة. ما معنى أن تذكر صحيفة «الواشنطن بوست»، مثلاً، نقلاً عن مسؤول أميركي رفيع، أن الولايات المتحدة أنفقت نحو 1.4 مليار دولار لـ«تنصيب» السنيورة على رأس حكومة لبنان؟ ولم يرد السنيورة على الخبر، ولم تحرص نشرة «المستقبل» العائليّة على نشر الخبر، وهي الحريصة على ترجمة كل ما يُكتب عن لبنان في الصحافة الأميركيّة الصهيونيّة ونشره.
وهناك وجوه مألوفة في الحكومة، وإن كان لبنان سيشتاق إلى من غاب عن الحكومة. كيف يمكن الرياضة البدنيّة ولعبة البنغ بونغ وتقديم الشاي للعدوّ أن تستمرّ من دون إشراف مباشر من أحمد فتفت؟ وكيف يمكننا أن نفهم واقع المنظمات الفلسطينيّة وانشقاقاتها دون التحليلات العميقة لوزير الداخليّة السابق حسن السبع، الذي ينتمي إلى فئة من الناس التي تمثّل حرجاً لنفسِها ولغيرها كلما فتحت فاها؟ وأمور الانشقاقات الفلسطينية باتت شغلاً شاغلاً لهذا الشخص الذي لفتَ بنباهتِه آل الحريري. وجو سركيس غاب عن لبنان وظهر في الإقليم الكردستاني المكتظّ بمافيات جديدة، بعضها لبناني، وبوجود إسرائيلي كثيف، لكنّها الصدفة طبعاً. وضلوع القوات اللبنانية في العراق، بالإضافة إلى متخرجي قوّات جيش لحد المنتشرين هناك، على ما روى لي عدد من المراسلين الغربيّين الموجودين في العراق، هو موضوع غائب عن الصحافة اللبنانية والعربيّة. لم يجرِ تحقيق، مثلاً، في أمر تلك الطائرة الخاصّة التي هبطت في مطار بيروت قبل سنتيْن أو أكثر وكانت محمّلة بالملايين من النقد العراقي بإمرة وزير من غلاة الفساد هناك، والتي ارتبطت، على ما روى رواة بصورة ما ـــ قل هو «البزنس» ـــ بأمين الجميل، الذي أتقن «البزنس» أثناء ولايته الرئاسيّة المشؤومة، عندما كان وليد جنبلاط يسميه «سوموزا لبنان». ونايلة معوّض غائبة عن السمع تقريباً، وهي تهيّئ لإطلاق عرمرمي لطفلِها المعجزة الذي تريده رئيساً للبنان يوماً ما، وهو يجول ويصول في خطبه التي يلقيها أمام جمهور مكتظّ في صالون منزله. ومعوّض، التي تحدثت عن خلود حافظ الأسد عند وفاته، مهووسة بسلاح المقاومة لأنها متأكّدة من أن مؤسسة رينيه معوض (المدعومة أميركيّاً والمنتخبة ديموقراطياً) قادرة على الدفاع عن لبنان من دون سلاح المقاومة الذي قزّزها يوم تصدّيه للعدوان الإسرائيلي.
وهناك الكثير من الوزراء العائدين، فليرحّب الوطن والسفارات الأجنبيّة بهم. الياس المرّ عاد وزيراً للدفاع، وأطلقَ إخراجاً جديداً لنفسِه من برنامج صديقه في «كلام (بعض) الناس». لكن الجميع في لبنان أصدقاء «شخصيّون» للمرّ. لا يذكر أحداً في أحاديثِه من دون أن يلحقَه بعبارة «وهو صديق شخصي»، وهو يذكّر بأحاديث كريم مروة في مذكّراته، حين علمنا أن الكتائبيّين هم من أصدقائه أيضاً. وكاد المر في الحلقة المذكورة أن يذكر أن سليمان فرنجية هو أيضاً «صديق شخصي»، إلا أن غانم، منعاً لإحراجه أمام الكاميرا، سارع إلى تذكيره بأن فرنجية صرّح أخيراً بأنه لا يحبّ الياس المرّ. ولا يمكن الاستهزاء بالياس المرّ، وأنا كنت قد رشّحته رسميّاً لوزارة مستحدثة لمكافحة شرّ عَبَدة الشيطان المستطير. وكان المرّ قد اكتسب خبرة مميّزة في هذا الموضوع، وكان متيقناً من أن خطر عَبَدة الشيطان في لبنان يفوق خطر إسرائيل على لبنان، وأفرد صديقه «الشخصي» مارسيل غانم حلقة خاصّة له قبل أن يتحرّر المرّ من رستم غزالة للحديث في هذا الموضوع. لكن من قَدَر لبنان أن يكون له وزراء دفاع هزليّون على مرّ تاريخه. ومن نكد لبنان (وفلسطين أيضاً) أن الأمير (كل ألقاب التفخيم والتعظيم والتعليم الطبقي في المنطقة العربية هي من هبات المستعمر وإرثه) مجيد أرسلان تولّى وزارة الدفاع في أخطر مراحل التاريخ اللبناني. مجيد أرسلان لم يجد أكثر من بعكورِه (المحفوظ في متحف خاص)، ومن أقاويل مُختلقة عن تصدّيه لإسرائيل في المالكيّة، لحماية لبنان من عدوان إسرائيل والياس المرّ هو خير خلف لوزارة أرسلان الهزليّة. ونسي غانم في تقاريره التبخيريّة أن يعود إلى الأرشيف الذي سبق 2007. وهل يظن مارسيل أننا ننسى حلقات سابقة لصديقه الياس كان يرسل فيها التحيّات لـ«العميد رستم غزالة»؟ لكن الثنائي المرّ ظريف في سرعة تكيّفه. فمِن العصر الإسرائيلي إلى العصر السوري ثم العصر الأميركي الذي أعقب اغتيال الحريري، تجد ميشال المرّ يلعب بهمّة ونشاط دورَ العرّاب المتحفّز. ولا ننسى البطولات الذي عزاها الياس المر إلى نفسِه في مواجهة رستم غزالة، لكنه تذكّرها هكذا فجأة بعد مدة غير قصيرة على خروج الجيش السوري من لبنان، عندما بدّل في اتهامه بمحاولة قتله. أمّا ما رواه طبيب رستم غزالة اللبناني، عن انتظار ميشال المر على قارعة الطريق في الرملة البيضاء، فيما كان غزالة يحلق ذقنَه ويتناول فطورَه، على مهل، فهذا تاريخ خارج عن أرشيف محطة القوات اللبنانية.
ولا يجد المرّ حرجاً أبداً في نقد سلاح المقاومة (وأعلن أن المقاومة عبءٌ على المقاومة)، مع أنه يمثّل شخصيّاً مثالاً ساطعاً لبطلان استراتيجيا 14 آذار الدفاعيّة وإفلاسها. وكان أداء الجيش وأداء هذا الوزير (الذي كان ينتمي إلى شلّة القوات اللبنانيّة في الماضي) لا يشرّف أحداً من دعاة الركون إلى الجيش في الخطة الدفاعيّة السنيوريّة الممهورة بموافقة جون بولتون. وفريق السنيورة يصرّ على حق احتكار الجيش للمقاومة. لكن ما الذي منع الجيش من المشاركة، حتى لا نقول «احتكار»، في مقاومة إسرائيل خلال حرب إسرائيل على لبنان؟ ما الذي منعهم آنذاك من تقديم نموذج لمقاومتهم الواعدة ضد إسرائيل؟ نتذكّر أن سعد الحريري استجدى رئيس قبرص لمساعدته دبلوماسياً أثناء العدوان. أي إنهم يريدون وأد المقاومة والاعتماد على دبلوماسيّته الفاشلة، والتي لم تحرّر شبراً من أراضي لبنان.
ونذكر الأداء الهزلي (والمُعيب) للمرّ في مواجهة العدوان الإسرائيلي عام 2006. فهد أطلق تصريحات ناريّة في أول أيام العدوان، ليعود ويهدّد إسرائيل بأن الجيش اللبناني سيلقّنها درساً لن تنساه إذا وطئت قوات العدو الأراضي اللبنانيّة. وعندما تقدّمت قوات العدو، اختفى المرّ عن السمع واختفى الجيش رغم استهداف إسرائيل له. ونام المرّ نومة أهل الكهف، فيما قاوم صبية متطوّعون عدوان إسرائيل على الوطن. لم يكن يجوز أن يموت جنود الجيش اللبناني في أسرّتهم. هي خطة المرّ الدفاعية، مع أنه دشّن «غرفة عمليّات» للجيش اللبناني تحتوي على أربعة خطوط هاتف، ويمثّل هذا ذروة التكنولوجيا الدفاعيّة المتطوّرة، مثلها مثل الحافلات والشاحنات التي تمدّ الإدارة الأميركية الجيش بها، مستفيدةً من خردة الجيش الأميركي في العراق. وبالحافلات والشاحنات تُحرّر الأوطان، وهي قادرة على ردع إسرائيل وطائراتها ـــ يا محسنين ومحسنات.
وهناك وزير جديد (زياد بارود) يُروِّج لنفسِه ويُروَّج له على طريقة الخداع اللبناني المألوفة. يقال لنا إنه حيادي مع أن ظهوره التلفزيوني على امتداد الأعوام الثلاثة الماضية أظهر موقفاً سياسياً واضحاً لا لبس فيه. لكن الكل يعيد إنتاجَ نفسه في لبنان، والكل يتشارك في عملية خداع مألوفة. عليك أن تنسى أنك شاهدت هذا الرجل يدلي بمواقف لا تختلف البتّة عن مواقف القوات اللبنانية. لكنه يغطّي موقفه بالإشارة إلى دوره في «المجتمع المدني»، وكأن المجتمع المدني هو خارج نطاق صراع الطبقات وخارج حيّز الصراع السياسي. وحياديّة المجتمع المدني أكذوبة لا تنطلي على من اطّلع على كتابات هيغل في الموضوع (وخصوصاً في كتابه «عناصر في فلسفة الحق» الذي لا يزال يبحث عن ترجمة عربيّة أمينة وحسنة له، بعد صدور ترجمة ممتازة لناجي العونلي لكتاب «فينومينولوجيا الروح»)، حيث رأى أن الشرطة هي جزء من المجتمع المدني. وقد وعت الولايات المتحدة والحكومات الغربيّة الدور الذي رسمه هيغل للمجتمع المدني في إطار التبادل الرأسمالي، مما دفع بتلك الحكومات إلى إغداق الأموال فوق رؤوس بعض تنظيمات المجتمع المدني في الشرق الأوسط للسيطرة على تلك المؤسّسات والتنظيمات، ولدفعها نحو التطبيع ولاحتضان الإمبراطوريّة الأميركيّة ومصالحها الاقتصاديّة والسياسيّة. وفي المفهوم الهيغلي، فإن الشركات الأمنيّة المنتشرة في لبنان هي جزء من المجتمع المدني (والعرعور مجتمع مدني أيضاً)، والصراعات الطبقيّة تتجلّى في تعبيرات المجتمع المدني الذي يساهم فيها هو أيضاً من خلال البرامج التي تُرسّخ النمط الرأسمالي (الفائق التوحّش في النموذج الحريري).
ثم هناك دور زياد بارود (الذي يقطّب حاجبيه في طرابلس تدليلاً على «حزمه» وشدة بأسه) في لجنة فؤاد بطرس لإعداد قانون الانتخاب، حين أفصحَ عن طموحاتِه الانتخابيّة (والرئاسيّة؟) عبر تقديم أطروحات البطريرك الطائفيّة الحادّة من دون زيادة أو نقصان. كان بارود، على ما يروي أعضاء في اللجنة، ينقل رغبة البطريرك في تصغير الدائرة الانتخابية قدر المستطاع إلى نطاق المبنى السكني أو المحلّة. وعلّق بارود مشاركتَه في اللجنة للتعبير عن غضب البطريرك (الطائفي)، لأن القانون الذي اتُّفق عليه لم يكن وفق رؤية البطريرك الشهيرة «فلينتخب المسلمون النواب المسلمين ولينتخب ـــ المسيحيّون النواب المسيحيّين « ـــ هكذا تبنى الأوطان عندنا، بمداميك التأجيج الطائفي وترسيخه دستوريّاً وقانونيّاً. ولكن إذا كان الياس المر حيادياً فلماذا لا يكون بارود حيادياً هو أيضاً، و«على مسافة واحدة» من جميع الأطراف؟
أما الوزير إبراهيم نجار فأضاف إلى أساليب السياسة الملتوية في لبنان أسلوباً جديداً. إنه حيادي هو الآخر، وإن أتى مرشحاً من القوات اللبنانية (الحياديّة؟). وقال إنه لم يكن يوماً سياسيّاً. ماذا؟ هل يقصد أنه لم يكن يوماً سياسيّاً باستثناء سنوات عضويّته في المكتب السياسي الكتائبي في سنوات الحرب الأهليّة الضروس، عندما كان يدلي بدلوه في جريدة «العمل» أيام الإعلان الجهوري للحلف الكتائبي ـــ الإسرائيلي؟ هل يقصد أن حزب الكتائب لم يكن يتعاطى السياسة بين 1983 وأواخر الثمانينيات أثناء جلوس النجار في اجتماعات المكتب السياسي؟ هل كان يشيح بوجهه عندما كانت القيادة الكتائبية التي انتمى إليها تناقش مواضيع التحالف مع إسرائيل (والتحالف مع النظام السوري عام 1976) والحرب ضد المسلمين (يحاول البعض في لبنان نسيان حروب الكتائب ضد المسلمين كمسلمين، كل ذلك حتى تستقيم الدعاية الكتائبية عن «مقاومتها» للغريب) والفلسطينيّين؟ هل كان النجار ينكبّ على مطالعة كتب القانون عندما تبحث قيادة الحزب في شؤون ميليشاوية في اجتماعات المكتب السياسي؟
أما طارق متري فقد عاد هو الآخر. ولكن عندما تراه تتساءل: لماذا يبدو المثقّف المنتمي إلى فريق آل الحريري مكسوراً ومهزوماً وبائساً وخانعاً وخافض الجناح؟ لماذا يبدو المثقف والصحافي المؤتمِر بمشيئة هاني حمود خالياً من الكبرياء ومن العزّة؟ ماذا يفعلون بهم في قصر قريطم؟ كم تغيّر طارق متري في سنتيْن، وكم هَرِمَ. طارق متري: عندما ينظر إلى المرآة يرى هاني حمّود، فيضرب سلاماً متأهّباً. كان متري يبدو حرّاً ومثقفاً، أما اليوم فيذكّرك بـ«ثقافة» فارس خشان ومحمد سلام. هذه هي المعاقبة الذاتيّة للانتهازيّة السياسيّة، فهي مضرّة بالمواهب والعقول، وقد تكون مضرّة بالصحة أيضاً. إنها تصيب الأذهان بالصدأ والتكلّس. ترى طارق متري وتتحسّس مبادئَك لتتأكّد أنك لست مُصاباً بما أصابه، لتتأكّد أنك ما زلت حراً. لكن طارق متري أتى بتزكية في الحكومة السابقة من الياس المر نفسه، ومتى تتذكّر ذلك يبطل عجبُك.
وأتى إلى الوزارة إبراهيم شمس الدين، وإن كانت الأفئدة تتطلع إلى عودة باسم السبع الجماهيري إلى الوزارة. نذكر تصريحات السبع في مديح الظلّ الـ«كنعان»ي آنذاك. شمس الدين فاز بالقرعة في حفلة في قريطم على الأرجح. ولكن في الفقه الشيعي، الولاية لا تُورّث، بالرغم من محاولات فاشلة لتوريث ابن الفقيه. وقد حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا تنصيب عبد المجيد الخوئي (الذي هبط في جنوب العراق على متن طوّافة عسكريّة أميركيّة مزنّراً بآلاف الدولارات) فقيهاً أوحد على العراق. لكن طعنات قاتلة أنهت الخطة في ساعات. وهل هناك ما أبرز شمس الدين وأنعش طموحاته السياسيّة المُبكّرة غير تحدّره من عائلة فقيه راحل؟ ويقول شمس الدين إنه يمثّل الشيعة غير الحزبيّين. أي إنه يقرّ بطائفيّة تعيينه من جانب آل الحريري (هل هو حيادي «على مسافة متساوية» من جميع الأطراف هو أيضاً؟)، لكننا لا نعلم كيف توصّل إلى استنتاجه المغترّ عن تمثيله هو؟ والجميع يروّج اليوم لوصايا سعود المولى (يساري سابق في نشرة آل الحريري، وهو غير غيره من اليساريّين السابقين الذين تعجّ بهم نشرة آل الحريري)، التي تحمل اسم وصايا محمد مهدي شمس الدين. وكان غسان تويني هو الذي «اكتشف» أهميّة الوصايا، وهو يعظ الشيعة في لبنان من دون حرج يُذكَر، مع أنه في مقابلة بالإنكليزيّة في جريدة «سان فرانسيسكو كرونكل» في عام 2005 كان قد حذّر من الخطر الشيعي ووصف الشيعة في لبنان بأنهم «نَهِمون» (الكلمة بالإنلكيزيّة تحتمل معنى «شَرِهون» أو «جشعون» أيضاً) وأنهم يريدون الاستيلاء على الدولة. لكنّ المقابلة تلك لم تُنشر ولا في صحيفة لبنانيّة. «صاءبت».
ووزير حزب الله لا يبدو مكترثاً بالقضايا المطلبيّة التي تستعملها المعارضة السابقة دوريّاً (مستعينةً بعدوّ الطبقة العاملة المزمن، غسان غصن) مطيةً لمَطالبِها الطائفيّة والحزبيّة. والحزب يحرص على توضيح ما يجب توضيحه: فهو لا يعارض الخصخصة في المطلق أبداً، لكنه يحبّذ التخصيص من ضمن الثلث المعطل. ووزراء حركة أمل قلّما يميّزون أنفسَهم، رغم «التمييز» غير الناصع لمحمد عبد الحميد بيضون، إلا أن الوزير محمد خليفة يمثّل طرازاً جديداً من الوزراء: إذ إنه يبدو صادقاً وخالياً من الطموحات السياسية ومتخصّصاً، بالإضافة إلى كونه، على ما يبدو، غير «فجعان» سياسيّاً أو انتخابيّاً. أما الوزير السابق طلال الساحلي، فلم نلاحظ أنه كان وزيراً لنفتقد غيابَه. ومحمد شطح اختيار حيادي في وزارة المال، فهو لا يمثّل إلا السنيورة وآل الحريري والبنك الدولي، وكلهم على مسافة واحدة من كلّ الأطراف. والوزير علي قانصوه حرق نفسه سابقاً في قبوله المشين بتسلّم وزارة العمل في حقبة قمع العمّال في عهد سيطرة الحريري والاستخبارات السوريّة. والوزير صلّوخ بالغ التهذيب، حتى مع من لا يستحق التهذيب من السفراء الأجانب. والتيار الوطني الحرّ يمثّل عبر وزرائه نموذجاً من الرأسمالية أكثر تطرّفاً من نموذج السنيورة السيئ الذكر.
الحكومة الحاليّة لن تكون حكومة إدارة أزمات، بل حكومة تفاقم الأزمات. والكل يتناطح انتخابياً، ورؤساء البلديّات في المتن ينتظرون الانتخابات لممارسة طقس معروف: فهم يرفضون إلا أن يحملوا أبا الياس المرّ على الأكتاف عندما يتوجّه إلى صندوق الاقتراع. ووليد جنبلاط يتأرجح كعادته، لكنه وجد متسعاً من الوقت ليعزّي آل سعود بوفاة الأمير فواز بن عبد العزير (الذي حاز وشاح والده عبد العزيز، والوشاح لا يُعطى إلا وفق معايير علميّة وأكاديميّة دقيقة)، وليحيّي الملك السعودي على مؤتمر تكاذب الأديان في مدريد. لعل جنبلاط سُرّ لأن الملك السعودي حرص على عدم دعوة ممثّلين للموارنة. وأنصار رفعت الأسد في طرابلس يقولون إنه عائد. لعلّ عودته ستختلف عن تلك العودة التي رافقت، صدفة، بداية اشتعال الحرب الأهلية في لبنان. وقد سلّم أحمد فتفت ملفاً ضخماً لسلفه عن إنجازاته في الوزارة. لكن الشاي لم يتسرّب من الملف الضخم، لماذا؟ وما يحيّر أكثر من غيره في الموضوع اللبناني (بالإضافة إلى صمت حلفاء النظام السوري في لبنان عن هذا الاستجداء المقزّز للوفد السوري في واشنطن لأخذ «بركة» اللوبي الإسرائيلي) هو إصرار السنيورة على انتزاع حق المقاومة ضد إسرائيل من الشعب اللبناني، ووضعها في خزنة في قريطم. لكن لمَ كل هذا الجدال المصطنع؟ هل هناك من يظن أن المقاومة، أية مقاومة، تحتاج إلى أذونات ورخص من الدولة لتقوم بمهماتها؟ انظروا من النافذة تروا سمير القنطار محلّقاً نحو فلسطين، مجدّداً. وهل انطلقت المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في لبنان بإذن من الياس سركيس أو أمين الجميل من بعده؟ إنهم يخدعون أنفسَهم، ويخدعون راعيهم البريء. حلّق يا سمير القنطار، حلّق نحو فلسطين.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)