في «سيرة مخيّم» وثّق الشاب الفلسطيني أحمد الحاج علي حياة 15581 لاجئاً يعيشون في مخيّم برج البراجنة منذ بداية تأسيسه. مات معظم هؤلاء «المؤسسين»، وبقي اثنان فقط، نصبا في عام النكبة أوّل خيمة وهما: حسن الخليلي وسامي كمال فاعور
راجانا حمية
لم يكن الوصول إلى مالكَي أوّل خيمة بالبساطة التي نتخيّلها. فالأوّل الساكن في «جورة التراشحة» ــــ مخيّم البرج، يغرق في صمته منذ ما يقرب من عامين بعدما فقد قدرته على الكلام بسبب عمره الذي ناهز 97 عاماً. والثاني، الذي لم يفقد هذه القدرة رغم الـ95 عاماً، يعيش في منطقة «طريق الجديدة»... ولكن بعنوان بيتٍ دليله مفتاح فلسطيني. ففي اتّصال لتحديد موعد اللقاء بسامي فاعور، كان العنوان الذي قدّمه «طريق الجديدة، بناية الفيحاء، شقّة معلّق عند بابها مفتاح العودة».
رحلة بحث طويلة ونصل إلى البيت، حيث تأخذنا ابتسامة العجوز في رحلةٍ من ساعتين يغرق فيها في ذاكرة بلدٍ آخر ومنفى عاش فيه أولى مآسيه، ومنزلٍ حرص على أن يحوي بعض ما يمتّ بصلةٍ إلى فلسطين. يأبى العجوز أن ينحصر اللقاء بالحديث عن الخيمة الأولى فقط. هو يحتاج إلى العودة أكثر إلى الوراء، إلى مدينته ترشيحا، عندما كان قد حمل السلاح للمرّة الأولى في عام 1936 لمواجهة «اليهود الذين أتت بهم بريطانيا، بعدما تمكّنت بتواطئهم من السيطرة على فلسطين». أعدّ نفسه للمواجهة، وانطلق في رحلةٍ لم ينتهِ منها حتّى بعد الهروب في عام 1948، فواظب عليها حتّى عام 1967 عندما اتّخذ قراره بالبقاء إلى جانب أطفاله.
ما بين عامَيْ 1936 و1948، عاش العجوز الفلسطيني الكثير من المواقف الصعبة التي أتعبته حدّ البكاء، يتذكّرها جيّداً بمآسيها والألم الذي كان يشعر به عندما كان يحمل زاده إلى معركةٍ خارج ترشيحا. يعيش المعارك التي شارك فيها بتفاصيلها المملّة، مسترجعاً منها اثنتين، الأولى بدأت في عام 1936 وأخرى في نهاية عام 1947. في الأولى، يتذكّر أبو نسيم كيف تألّفت الفصائل «حيث قام الفدائي الأصبح بتكوين فصيل من 12 فدائياً لمقاومة الجيش الإنكليزي في جبل ترشيحا»، وكيف تكشّفت مأساة الفلسطينيين، «ففي إحدى ليالي المواجهة، طوّق الإنكليز الذين كان عددهم يقدّر بالآلاف الأصبح وقتلوه، وتسلّم الكثيرون بعده واستشهدوا، فبقينا على هذه الحال... نستشهد بعد معارك شرسة واليهود يقضمون أراضينا، إلى حين اندلاع الحرب العالميّة الثانية». مع بداية هذه الحرب، انقلبت المعادلة بعد النداء المدعوم من الدول العربيّة، الذي أطلقته بريطانيا، والذي دعت فيه «الشعب الفلسطيني إلى وقف القتال، متعهّدة عقب انتصارها بإعطائنا وطناً». أدّى النداء إلى تغيير منحى القتال، «فمن كان فدائيّاً تعاون مع الإنكليز طمعاً بالوطن الذي نملكه أصلاً»، وانتهت الحرب «بتأسيس أوّل فيلق إسرائيلي ليحمي المستعمرات، فيما كانت مكافأتنا نحن 200 ليرة فلسطينية وبزّتين لكلّ مقاتل... ودمار المنزل في وقتٍ لاحق إن تبيّن أنّنا لا زلنا نملك سلاحاً».
بقيت الحال على ما هي عليه ــــ موت وقضم ــــ إلى أن أتى عام النكبة. خلاله، خاض الفلسطينيّون مجموعة معارك متتالية، كان آخرها معركة تلّ الأحمر «التي قاتلنا فيها بشراسة، مما دفع قائد الكتيبة في حينها نمر أبو دعّاس إلى القول: أنا دخلت المعركة وحاربت لأني نمر، بس بين هدول مش أنا نمر». علم اليهود بهويّة بعض المقاتلين في تلك المعركة «فقصفوا بلدنا بطائراتهم». لكن أبو نسيم لم يعلم بالأمر إلا في طريق العودة إليها عندما التقى بـ«أبو فوزي المعلاوي» الذي أخبره. عندما وصل إلى البلدة «لم أجد أحداً من عائلتي ولا من أبناء البلدة، ما عدا بعض من لم يتمكّنوا من الخروج». وفي ذلك اليوم، شعر أبو نسيم بأنّه لن يعود، واستعدّ للحاق بعائلته في «رميش» اللبنانية. في الطريق، مرّ بقرية «صفّوطة»، حيث التقى إحدى جاراته «أم نصرات»، وكانت المرّة الأولى التي يطلب فيها منها «رغيف خبزٍ لسدّ الجوع»، وكانت تلك المرّة الأولى التي يبكي فيها ويشعر بالتشرّد.
وصل إلى رميش بعد ثلاثة أيّام، فبدأت حياة ما بعد فلسطين، حيث واجه أبو نسيم وعائلته الكثير من المرارة، ليس أقلّها بالنسبة إليه «الكف الذي تلقيّته من شرطيّ في بلديّة بنت جبيل عندما ذهبت لأحضر الخبز. يومها أقسمت أنّني لن آخذ رغيفاً ولو أعادوا إليّ ترشيحا». من بنت جبيل إلى عيتا إلى تبنين سيراً على الأقدام، إلى أن حطّت العائلة الرحال في بيروت، حيث استأجرت منزلاً نحو سنتين حتى نفد المال. في ذلك الوقت، تبرّع أحد مالكي الأراضي في البرج، محّمد منيمنة، بناءً على طلب المختار حسن علي السبع، بقطعةٍ من أراضيه إلى اللاجئين.
حملت العائلات أمتعتها وأقامت في الأرض، حيث تكفّل الصليب الأحمر الدولي تقديم «الشوادر» لبناء الخيم، فأُنشئت أوّل «سبعة شوادر» دفعة واحدة، كان من بينها «بيتنا»، الذي «تهدّم مراراً على أبنائي». وهو «البيت» نفسه «الذي أكلنا فيه الرمل أثناء العواصف ويبّسنا فيه وريقات الشجر وأكواز الصنوبر لنتدفأ ونطبخ طعامنا». خلال تلك الفترة، لم يكن في المخيّم سوى بضعة خيمٍ عانى قاطنوها الخوف من الحيوانات الكاسرة والحسرة.
يسترجع أبو نسيم أيّام الخيمة الأولى التي استمرّت أعواماً، ويتذكّر منها حادثة أفقدته الأمل بالعودة. ففي إحدى المرّات «حضرت صحافيّة كندية لتسألنا إن كنا على استعداد لترك الخيم وأخذ الجنسيّة الكنديّة والعيش هناك، فقلت لها أنا يا عمّي كنت فلّاح وعنّا زيتون، وكانت تجي العصفورة تعمل عش، ولمّا يطيروا، كانوا يرجعوا كل يوم يرفّوا فوقها لأنّها بيتهم، ونحنا مثلهم، ما بنترك». لم يترك أبو نسيم الخيمة التي احتضنت ثلاثة أطبّاء وابنتين وعدداً من الأحفاد، ولكنّه لم يعتدها وكذلك منزله الحالي في الطريق الجديدة، لأنّه مؤمن بـ«أنّ الدم الغريب لا يعيش».
لا يزال هذا العجوز يحلم بقصر ترشيحا الذي يضع صورته على طاولة في صالون منزله الحالي، والتي أتاه بها المفكّر العربي عزمي بشارة خلال زيارته الأخيرة إلى المدينة. يحرص أبو نسيم على صورة القصر التي أتعب الزمن ألوانها أكثر من البيت الذي يقطنه اليوم. يحفظ زواياه بكثيرٍ من الدقّة، ويعيش على صدى أخباره، فهو يعرف أنّ بيته في «الـ67 كان مرقصاً، والآن تقطنه عائلة يهوديّة، وتزرع حوض الفلفل كما أمّي». وهو لا يتردد في كلّ مرّة يزوره فيها صحافي أو من يعرفهم هناك أن يطلب شيئاً من البيت، وكانت آخر هديّة تلقّاها منه «11 كيلو رمان».


«التراشحة» في البرج

في الأوّل من كانون الأوّل المقبل، يمرّ 21792 يوماً على سقوط ترشيحا، يقابلها 21427 يوماً على قيام مخيّم برج البراجنة، الذي كان أول «البيوت» فيه خيمة حسن الخليلي وأبو نسيم وخمسة آخرين. بعد ذلك ببضعة أشهر، ارتفع عدد الخيم إلى 30. وكان أوّل عملٍ يقوم به «التراشحة» في حيّهم تأليف لجنة للاهتمام بتنظيم الإعاشة ورعاية النازحين.