علي السّقّا ترتسم ابتسامة خفيفة على ثغر أمّ محمد سكيكي عندما تبادر إلى سؤالها «كيف عايشتِ الحرب؟». كأن ما مرّ بها على مدى 33 يوماً لا يعدو كونه أكثر من حلقة صغيرة تتصل بتاريخ موغل في حياة الجنوبيين ونمط عيشهم منذ بدء الاحتلال. هو تاريخ عجّت تفاصيله بأخبار القتل والدمار والتهجير ليسوقها إلى قناعة لا تنفكّ تزداد رسوخاً مفادها أن الإنسان الذي يبرح أرضه وبيته يفقد كرامته ولو شيّدت له الدنيا بما فيها.
هي واحدة من نساء الجنوب اللواتي لم يغادرن منازلهن خلال الحرب وصمدت في بلدتها دير قانون النهر مع أولادها «أحدهم متزوج وله أربعة أولاد، إضافة إلى ابنتي التي كانت حاملاً».
طبخت وخبزت، لها ولشباب البلدة من المقاومين. حقل منزلها لم يجعلها تحتاج شيئاً، ولم ينجح تدمير ثلاثة بيوت في الحي حيث تقيم في إخافتها. «لعل وجود الإنسان في بيته وعدم شعوره بأنه مهان يجعلانه أكثر تحملاً وقوة».
تجد أم محمد نفسها «مقصّرة» بحق من يستبسل في الدفاع عن أرضه ووطنه «لو قدّمت الكثير لأناس يضحّون بدمائهم تجد نفسك مقصراً بحقهم» وهو ما كان يدفعها بحسب ما قالت إلى إيفاء جزء بسيط مما يجب عليها تجاه المقاومين خلال الحرب.
تذكر يوم زارها أحد «الشباب» أثناء الحرب ليسألها أن تعطيه بضعة أرغفة من الخبز فاتفقت معه على الوقت الذي تكون فيه قد انتهت من صناعته «كنت قد انتهيت من صلاتي عندما رحت أعدّ العجين تمهيداً لخبزه. ولما تأخر عن موعده، خرجت أنتظره عند طرف الشارع إلى أن أطل عليّ مهرولاً من بعيد وطلب رغيفين فقط، وعندما ناولته أكثر قال خجلاً «كتير هلقدّ يا حاجّة رغيفين بيكفوني». قلت له «إذا كان رغيفان من الخبز يشبعانك فلن أبخل بأربعة منها، ابتسم وقال «سآكلها أنا والشباب»... كان هذا قبل أن يستشهد في اليوم التالي.
تذكر أم محمد حادثة أخرى، لافتة إلى أن شهر تموز تزامن مع شهر رجب في التقويم الهجري وكان «الشباب» صائمين، وجاء أحدهم يسألها إن كان لديها ما يفيض عنها من طعام ليأخذه ويتناوله عند حلول موعد الإفطار. دعته للانضمام إلى مائدة الإفطار في بيتها، قائلة «إيه يا تقبرني تعا كول وخود معك أكل لرفقاتك». إلا أنه لم يوافق لأن رفاقه صائمون أيضاً ولا يجدون ما يسدّ رمقهم. «حمّلته ما كان عندي من شمّام وعنب ليطعم رفاقه»، تصمت قبل أن تردف «هذا المشهد يعبّر عن نفسه، إذ كيف بإنسان يأتي إليك صائماً ويطلب الطعام وعندما تدعوه للجلوس إلى المائدة يرفض لأن رفاقه صائمون أيضاً ولا يجدون ما يأكلونه. في هذه اللحظة تحسّ بهم كأنهم إخوتك وأولادك».
أمّ محمد ليست مثلنا نحن الأناس العاديين الذين نتفاجأ بأحد معارفنا أو أقربائنا لحظة استشهاده لأنه كان قريباًً منا وبعيداً عن إدراكنا لما كان يخفيه عن أنظارنا ومسامعنا. «لا لم أكن أتفاجأ بمن كنت أراه جاراً أو عاملاً مياوماً أو فلاحاً ثم مقاوماً، فتلك الظروف تدفع بكل واحد منا لأن يكون مقاوماً». أم محمد ليست ابنة ساعتها، فهي وبحسب ما أخبرتنا منذ نشأة المقاومة كانت تقدم «ما يفترض بي أن أقدمه قدر استطاعتي، وليست حرب تموز فقط هي ما دفعتني لأن أدفع حصتي».


مقاومة منذ 1982

منذ انطلاق المقاومة في عام 1982 كانت أمّ محمد تستطلع الطريق للمقاومين قبل تنفيذ عملياتهم. وتتمنى لو كان باستطاعتها أن تعاون الشباب اليوم كما كانت تفعل في الماضي، لكن «اليوم الأسلحة تطوّرت ولم يعد هناك من داع لإشراكي في الدعم اللوجستي»، لافتة إلى أنها كانت تنقل عبوات إلى مكان نصب الكمائن للإسرائيليين.
رغم ذلك تخجل من الظهور على الملأ والحديث عما كانت تقدّمه للمقاومين. فذات مرة «طلب إليّ تلفزيون المنار أن أظهر على الهواء وأروي قصتي مع المقاومين، فرفضت لأنني أخجل أن أقول «أنا طعميت وسقيت» لرجال قدّموا دمهم، فأنا مهما قدّمت لهم يبقون أغلى وأرفع شأناً مني».