غالباً ما يُتعاطى مع الطفل العنيف كحالة شاذة، ننفر منه، نتهرب من أهله خوفاً من حضوره الدائم إلى جانبهم، وحين نفكر بعلاج للمشكلة نعتقد أن العلاج يجب أن يقتصر عليه... ولا نتنبّه إلى أن عنفه تعبير عن مشكلة لدى الأهل، وأن العلاج يبدأ بالسؤال عنهم
جيزيل خلف
يفاجئ نضال (7 سنوات) ذويه، وزوارهم، قد يغضب في أية لحظة ويروح يضرب رأسه بالحائط، أو يقوم بحركات عنيفة أخرى. يقلب الصبيّ أثاث المنزل رأساً على عقب، يبعثر الطاولات وما عليها في «غمضة عين»، يفتح الباب دون إنذار، ويقصد الجيران ليضرب ابنهم «كفاً» ثم يعود.
هذا غيض من فيض ما يقوم به الصغير الذي يعيش في قرية جبل لبنان القريبة من بيروت. ويشكو والداه من تراجع نتائجه في المدرسة، رغم أنه «صبي ذكي». لم يكتف والدا نضال بإبداء قلقهم عليه، بل بحثوا عن حل لمشكلته من خلال عرضه على معالجة نفسية.
يخضع «الصبي العنيف» حالياً لنظام غذائي خاص، وقد نصحت المعالجة والديه باعتماد أسلوب جديد في تعاطيهم معه. تعترف والدته بأن «عملية تربية الأولاد ليست لعبة، على الأهل أن يتنبهوا لكل تصرف يقوم به الولد».
والد الصبي يستعيد السنوات الأولى لطفله، يقول بمرارة: «في البداية لم نكن نهتم لما كان يقوله، حتى لو أراد التعبير عن شيء يخصه».
الاستشارات التي قدمتها المعالجة النفسية ساعدت في «وضع الإصبع على الجرح»، نضال لم يكن يجد المساحة الضرورية للتعبير عن نفسه، هكذا صار «العنف» وسيلته لجذب الأنظار إليه، وليؤكد أنه فاعل ومهم. لم يقصد ذوو نضال إهماله، اعتقدوا أنه صغير وأن لا أهمية لرأيه، ولكن الإهمال ليس المسبب الوحيد للعنف.
كثيرون يشتكون من عنف يصدر عن أولادهم. ثمة صغار يقومون بأعمال «غير محتملة»، يضربون ويخربون بشكل مجاني، يتهرب الأقرباء والأصدقاء من استضافتهم، حيثما يحلّوا يحل الضجيج والخراب. الأمثال كثيرة، نضال لا يمثّل حالة فريدة، أهل محيي الدين (7 أعوام) وأساتذته يشتكون من حركاته غير المبررّة وطريقته العنيفة في التعبير، وتذكر أمه أنه كان يلعب مع زميله فكسر له يده «ابني يخرّب البيت في دقيقة، لا يتقبل فكرة أن العالم ليس كما يريد هو، لقد انقطعنا عن زيارة الأصدقاء والأقارب مخافة أن يحدث الأذى في بيوتهم».
أمّا علي السبتي (8 أعوام) فهو يصحو باكراً ليستمتع بمنظر الأبقار وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة قرب منزله. يصعب وصف شعوره وهو يتابع بشغف منظر دماء الأبقار تتدفق تحت أقدامها. وقد مرّر مرة «شفرة» حادة على يد شقيقه الذي يرى أن «علي ليس كباقي الأولاد، فهو لم يهوَ برامج الأطفال، بل يراها سخيفة، منذ نعومة أظافره أبدى عشقاً لأفلام التشويق وهي رفيقه الدائمة»، يعتقد ذوو علي أنهم «جرّبوا كل الوسائل لتهدئته، ولكنه ورش كتير»، لكنهم لم يفكروا يوماً باستشارة معالج نفسي، ولا يؤمنون بدوره. يصعب تقديم تعريف علمي واحد لمصطلح «الطفل العنيف»، إنه شكل من أشكال التوافق الاجتماعي للحديث عن نوعية معينة من الذين يحدثون انفعالات حادة، فزينة (3 أعوام) تملأ الدنيا صراخاً كلمّا عارضها أحدهم في ما قررت أن تفعله، تلعب مع الحشرات وتستمع بقتلها، نادرة هي الألعاب الموجودة في غرفتها، فقد كسرت معظم ما حمله لها أهلها.
رواد (10 أعوام) لا يتوانى عن ضرب من يقف أمامه إن كان كبيراً أو صغيراً، وهو في حالة شجار شبه مستمرة مع والديه اللذين يواجهان عنفه بعنف أكبر «هناك أولاد ما بيفهمو غير بالضرب».
الدكتورة مادلين بدارو طه (طبيبة أطفال، ومتخصصة في الصحة النفسية للأطفال والمراهقين) شددت على «عدم وجود مصطلح الطفل العنيف، لأن التصرفات التي تصدر عن الطفل ويوصّفها الأهل بالعنف تندرج في إطار الفوضى السلوكية». وأوضحت أن «العنف» أو الاضطرابات المزاجية عند الطفل «ليس مفهوماً عاماً يخضع لثوابت، وليس له أنواع ولا أشكال محددة أو موحدة»، بل لكل طفل فرادته، فـ«العنف تصرف ظاهري غير مقبول وغير متوقع».
هل لهذا الاضطراب السلوكي أسباب محددة؟ طه لفتت إلى ضرورة التنبه إلى كل الأشخاص والعوامل التي تحيط بالطفل «لا يمكن إهمال الأهل، والأصدقاء، وسكان الحي، والجو العائلي، والتلفاز، والمدرسة...».
وماذا عن العنصر الوراثي؟ قالت طه إن لهذا العنصر دوراً«ولكنه ليس أساسياً»، موضحة أن الأساليب العنيفة في التعبير لا تحصل بالوراثة، قد يرث الطفل حدّة الطباع وبعض العادات، ولكن ذلك ليس عاملاً أساسياً في معالجة الاضطراب السلوكي هذا».
ركزت طه على ضرورة «وجود الطفل ضمن بيئة تحميه من الصدمات، وتأمين جو أسرّي هادئ وسط تفاعل لين مبني على الحوار وعدم اللجوء إلى العقاب الجسدي العنيف»، وشددت على ألا يتفاعل الطفل مع أمور لا تناسب عمره، وقالت إن تحقيق النجاح المدرسي «يجنّب الطفل التعرض للعنف من المحيطين به، ما يقلل من إمكان قيامه بتصرفات قد تأخذ منحى «عنيفاً» عكس الطفل الذي لا يحقق نجاحاً، ما يعرضه للعنف الجسدي والكلامي ولأشكال أخرى من العقاب»، وبالتالي فهو معرّض لإظهار «ردّات فعل عنيفة».
لا يمكن الحديث عن قاعدة عامة في علاج الاضطرابات السلوكية «فالعلاج يقوم على دراسة حالة الطفل العنيف المندمج في محيطه، دون إغفال أي تفصيل قد يكون مفصلياً».
من جهة ثانية، ركّزت طه على «أن المجتمع لا يقبل التعبير العنيف ولا يقبل الأعذار، وعادة ما يبتعد العامة عن الشخص الذي يقوم بتصرفات غير متآلفة مع المحيط»، واستمرار العنف يجعل المرء معزولاً عن محيطه، غير مندمج في جماعته، ما يعيق تطوره داخل المجتمع، ويولّد فيه مشكلات أخرى قد يكون لها الوقع الأكبر في حياته».


أول مرحلة في العلاج هي البحث عن طرق تفضي إلى إيقاف السلوك المزعج عند الطفل، ومن ثم التعاون مع المحيطين بالطفل، ثمّ اعتماد سبل وقاية كي لا تتفاقم هذه الاضطرابات، ولتحقيق كل ذلك «يقابل المعالج الأهل والطفل كل على حدة، ثم يستضيفهم في حوار مشترك»