ناهض حتر *الولايات المتحدة وأوروبا تدركان أن انسحاب الحلقة المركزية الصلبة من الحلف الإيراني سوف يفرطه. ولذلك فلا بديل عن الحرب سوى استقطاب سوريا والتفاهم معها، وتوسيطها مع طهران. هل ثمة مَن سيتحدث الآن عن التبعية السورية لإيران؟
الأسد لم تأخذه النجاحات والأضواء إلى حيث لا يريد: تنازلاته محسوبة ومؤجلة، ومواقفه ثابتة، كما لو كانت مواقف والده. فلا سلام من دون الجولان حتى حدود 67، ولا تطبيع بل «علاقات عادية»، ولا تراجع عن دعم المقاومات العربية في فلسطين ولبنان والعراق، ولا قبول بالاحتلال الأميركي وترتيباته في بلاد الرافدين.
غير أني أسفت، في حديث الأسد إلى فضائية «الجزيرة»، لأمرين: الأول إلحاحه على الاعتقالات السياسية، وتشديده على صرامة القانون ضد المعارضين، لا ضدّ الفاسدين. والثاني القول «بالإصلاح الاقتصادي المتدرّج» بدلاً من التأكيد على أولوية القطاع العام والتنمية الوطنية كبديل استراتيجي عن سياسات الليبرالية الجديدة و«الاستثمارات» الأجنبية.
نقطة الضعف المركزية التي تعانيها سوريا الآن تتمثل في النخر الداخلي للسياسات الليبرالية الجديدة التي من شأنها، إذا ما استمرت، أن تضرب التحالف الاجتماعي الداخلي وتجعل الفساد سرطانياً، وتشق المجتمع إلى مكوناته البدائية، وتعصف بوحدة الدولة ومكانتها الإقليمية.
في أوائل هذا العام تمّ في آن واحد «تحرير» الأسعار وزيادة الرواتب بنسبة 25 بالمئة. وهي الوصفة نفسها التي تم تطبيقها في الأردن ومصر. وهكذا نرى أنه على ضفتيّ الاصطفاف السياسي العربي، يفكر الليبراليون الجدد المسيطرون على القرار الاقتصادي الاجتماعي بالطريقة نفسها.
وهذه الوصفة ـــ أي فرض آليات تسعير السوق العالمية في الأسواق المحلية، وتعويض العاملين جزئياً، بزيادة رواتبهم ـــ هي وصفة فاسدة: فشقّها الأول ليس حلاً على المستوى الاقتصادي، ما دامت إنتاجيّة الاقتصاد المحلي وتنافسيّته ليستا في مستوى الإنتاجية والتنافسية العالمية، ما يعني بالتالي انكشاف الاقتصاد المحلي أمام تسونامي مدمر. أبرز مظاهره، من جهة، ارتفاع كلفة مداخيل الإنتاج والعمالة (ما يهدد القطاعات الإنتاجية التي لم تعد كذلك محمية جمركياً)، ومن جهة ثانية، خلق الأساس لتركز الاستثمارات المحلية والأجنبية في قطاعات ليست مولّدة لفرص عمل منتظمة وكثيفة، بل مولّدة للتضخم، كالاستثمارات العقارية. ويؤدي هذا في النهاية إلى هجرة الكادرات الأكثر تأهيلاً إلى حيث يمكنها الحصول على أجور اقتصادية.
والوصفة تلك ليست أيضاً حلاً اجتماعياً. فلكي يتساوى تحرير الأسعار حسب السوق العالمية مع الزيادات في الرواتب، أي لكي يملك العاملون القوة الشرائية الملائمة للأسعار العالمية، ينبغي أن تكون نسبة الزيادات في سوريا ـــ وفقاً لحسابات الخبير السوري قدري جميل ـــ أكثر من 458 بالمئة، بينما يجب أن تصل في الأردن إلى أكثر من 230 بالمئة. ومن البديهي أن الموازنات الوطنية لا تحتمل نسباً كهذه.
البديل العولمي الرأسمالي، أي الالتحاق بالسوق العالمية وفق شروطها وآلياتها، لا يؤدي إلى اللحاق بها ـــ أي استدراك التخلف المحلي ـــ بل يؤدي إلى العكس، أي تفكيك الاقتصاد الوطني وإفقاره وتهميشه، أي تحويله إلى هامش للنهب المكشوف غير المقيّد، في قطاعات غير مرتبطة بتطور الإنتاجية والتنافسية، وهي: ـــ العقارات، وهي تساوي التوسع الرأسمالي العولمي، بغض النظر عن جنسيته، على حساب الأوطان والشعوب. ـــ إدارة وتشغيل البنى التحتية، أي الاستغلال الخاص للمرافق العامة. ـــ والمناجم. ـــ والطاقة، والاتصالات، والاحتكار الفعلي للتجارة.
وسوف تشهد هذه القطاعات «نموّاً» انفجارياً، لكن على حساب التنمية. إذ لا يستفيد من ذلك النمو سوى الرأسماليين الأجانب ووكلائهم المحليين وشركائهم في مواقع القرار. ولا يبقى أمام الأغلبية سوى الانهيار. ونحن لا نتحدث هنا عن العاملين بأجر فقط أو جيش العاطلين فقط، وإنما نتحدث أيضاً عن انهيار الطبقة الوسطى والصناعيين والمزارعين وأصحاب المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والتجار التقليديين والمثقفين. أي نتحدث عملياً عن انهيار الهيكل الرئيسي للمجتمع.
الأردن سبق سوريا بخطوات واسعة في اللبرلة الاقتصادية حتى احتل الموقع الرابع عالمياً، في بعض مجالات العولمة ـــ أي أعلى الدرجات في الانكشاف المحلي بالنسبة إلى لخارج. لكن يبدو أن سوريا تسير بخطى حثيثة نحو مصير مشابه، لكن مع مخاطر أكبر بكثير، ليس فقط بالنسبة إلى حجم سوريا واقتصادها، بل أيضاً للاعتبارات الآتية:
ــ إنجازات سوريا في مجالات الصناعة والحرف والزراعة، وخصوصاً الزراعة الاستراتيجية على عكس الأردن هي كبيرة بالفعل. وقد راكمها الشعب السوري الشغّيل على مدار عقود من التضحيات الجسام. وهي مهددة بالتلاشي بخسائر لا يمكن تقديرها الآن.
ــ وبينما يتوفر النظام السياسي الأردني على آليات قانونية ــ ولو محدودة ــ للتعبير عن الاحتجاج الاجتماعي، من دون أن يشكل ذلك تهديداً لأمن النظام نفسه، فإن طبيعة نظام الحزب الواحد تنطوي على خطر احتجاجات انفجارية تتحول إلى سياسية.
ــ اللبرلة في ظل نظام القطاع العام تأخذ طابع النخر من الداخل، أي تجويف الاقتصاد المحلي مع الإبقاء على شكله «الوطني». ولا ينفصل ذلك عن النمو الهائل في الفساد.
ــ إلا أن الاعتبار الأهم أن سوريا تؤدي دوراً مركزياً في الحركة الإقليمية المناوئة للمشروع الأميركي في المنطقة. وهي القوة العربية الرسمية الوحيدة الباقية في مواجهة إسرائيل. ويضع هذا الدور على سوريا مهمات جساماً لا يمكن إنجازها من دون التحالف الوطني الاجتماعي الداخلي ـــ ذاك الذي تهدده اللبرلة ــ كما يضع سوريا في دائرة الاستهداف العدواني الذي يتطلب صدّه تطوير القطاع العام، وحماية الإنتاج الوطني، واتباع سياسة تسعير اجتماعية.
الليبرالية الجديدة في سوريا هي عدوّ داخلي يعمل ضد قوة الدولة السورية ودورها الإقليمي. إلا أن الرئيس الأسد، في ما جمعه من قوة إقليمية ودولية، بات يمتلك طريقاً معبداً للانفتاح السياسي الداخلي والتشدد الاقتصادي ـــ الاجتماعي الوطني. فهو اليوم من القوة بحيث يستطيع تنفيذ ثلاث مهمات أساسية تحتاجها سوريا، وهي طرد الليبراليين الجدد من الحكومة، وشن حملة جذرية ضدّ الفساد، وفتح أبواب السجون. وهناك بشائر على اتجاه قوي إلى وضع المهمة الأولى موضع التنفيذ، إذ تتداول معلومات في دمشق عن قرب إطاحة «المجموعة الاقتصادية» في الحكومة السورية، وهي التسمية الرسمية لوزراء الشؤون الاقتصادية والمال الذين يغلب عليهم الليبراليون الجدد برئاسة عبد الله الدردري. ومن المنتظر أن يظهر هذا التحول في تعديل أو حتى تغيير وزاري قريباً جداً. الحملة ضد الليبرالية الجديدة في سوريا متصاعدة منذ أكثر من عام، سواء بين الأوساط اليسارية أو بين الأوساط الوطنية ـــ الاجتماعية في النظام السوري نفسه. وبعد مرحلة استطاع فيها الليبراليون الجدد السيطرة، نسبياً، على القرار الاقتصادي، تمكّنت أوساط حزب البعث من صدّ الهجوم، وربما تأكيد العودة إلى نظام القطاع العام. وهو يظل اتجاهاً بلا قيمة إذا لم يرتبط باقتلاع الفساد المؤسسي.
لعلّ الرئيس بشار الأسد كان مضطراً لتوزير الليبراليين الجدد على سبيل التحالف مع الأوساط الرأسمالية الكمبرادورية في الداخل للتخفيف من خناق الحصار الأميركي والتهديدات بالحرب وإسقاط النظام. بل إن ذلك التحالف ـــ الذي أذى الشعب السوري ـــ كان بمثابة رسالة إلى الخارج كإشارة إلى إمكان السير في الاتجاه الليبرالي الرأسمالي بالتفاهم مع النظام لا ضده. وبالنظر إلى أن دمشق كسبت الجولة الإقليمية، بينما يستعدّ المحافظون الجدد في واشنطن للرحيل عن البيت الأبيض، فلم يعد هنالك ما يبرر الإبقاء على أصدقائهم المحتملين في الحكومة السورية. وهكذا، فإن المأمول أن تنعكس الإنجازات السورية في السياسة الخارجية على شكل سياسات اجتماعية داخلية.
* كاتب وصحافي أردني