قاسم عزّ الدين *قد نحتاج إلى الكثير من التبصُّر للإحاطة بمجمل أبعاد عملية تبادل الأسرى وتحرير جثامين قدامى الشهداء. وقد نحتاج أكثر إلى البحث والتفكّر العميق لاستخلاص العِبَر والإفادة من الدروس الغنية. فالحدث جلل مهيب، إنما كالأحداث العظام، ثمرة تاريخ شديد المخاض تسبق القدرة على الإدراك التام لحظة وقوعها.
علّمنا حزب الله، في معركة مفاوضات غير مباشرة، كما علّمتنا حركات التحرّر الكبرى، أن المفاوضات أشبه بالحرب، وليست حفلة مصالحة، بين عدوٍّ مدجج بالسلاح وقبائل متديّنة لا تفقه أصول العداوة وأصول الصداقة.
هي قتال بين عدوَّين، يستخدم كلّ منهما استراتيجيته ومعارفه وتقنياته، فضلاً عن شتى العلوم والفنون والمهارات. يدفع بأوراقه وملفاته، لكنه يلوّح بقدرات غير منظورة. يخفي نقاط ضعفه، ويتلاعب بإرادة عدوّه والأعصاب. يغطّي ويعرّي، يكشف ويستر، لكنه يستند دوماً على السلاح الحي. فالمفاوض الذي يُسقط السلاح من يده، يتيح للمفاوض المقابل أن يضع سلاحه في ظهره، ولا يبقى أمامه غير توقيع صك الاستسلام تحت وطأة السلاح في ظهره.
أمسك حزب الله السلاح بيده، فحرم المفاوض الإسرائيلي من أن يضع السلاح في ظهره، وأجبره على القبول بكل شروط التفاوض. ولم يكن إذعان المفاوض الإسرائيلي لمجرد أهمية عودة الجثتين في منظومة الجيش الإسرائيلي، بل خوفاً من فشل المفاوضات وإعادة تحريك السلاح الحي.
علّمنا حزب الله، كما علّمتنا حركات التحرّر الكبرى، أنّ مَن يتقن استخدام السلاح يتقن استخدام سلاح المفاوضات، والعكس بالعكس صحيح. فالوفد المفاوض باسم المقاومة ظلّ يتحصّن بالقيادة السياسية، تزيل الضغط المباشر عن كاهله، وتشدّ من أزره برفع السقف والخطوط الحمر. تدفعه، على رؤية من أمرها، إلى التقدم عتبة عتبة، وإلى احتلال مساحات رمزية تسهم بكسر شكيمة إسرائيل في عملية صراع عنيف بين قيم الاحتلال وقيم التحرّر: ــ إعادة الاعتبار لكل الأسرى والشهداء، ولا سيما غير المحرَّرين. ــ التأكيد على الاستمرارية التاريخية للمقاومة، بغضّ النظر عن تنظيماتها ومعتقداتها. ــ الإصرار على تحرير سمير القنطار الرمز. ــ العودة من فلسطين من أجل العودة إلى فلسطين، أحياءً وجثامين. وهذا الأمر أحرج بالمعيّة بعض الانهزاميين الذين يهربون إلى التناسي، ولا يحلمون بإعادة تكريم جثامين الشهداء في القدس أو رام الله، إن لم يكن في مقابر قرى فلسطين ومدنها.
تتضح أبعاد هذه المعاني في سياق تجارب حركات التحرر الكبرى، وبمقارنتها بمآسي «محادثات السلام» بين الحكام العرب وإسرائيل. في أوسلو، التفّت القيادة السياسية، من وراء ظهر الوفد الفلسطيني المفاوض، للتوقيع على «اتفاقيات السلام» دون أي مفاوضات. ولم يكن رئيس الوفد حيدر عبد الشافي قد أنجز الملفات وجدولة الأولويات، حتى كان أحمد قريع وصائب عريقات قد أنجزا مراسم «احتفال الصلح»، وسجّلا سابقة لم يشهد مثلها تاريخ «المباحثات». قطفت إسرائيل الثمرة ناضجة، بإقامة علاقات دبلوماسية مع نصف دول الكرة الأرضية، وهي كانت ترفض الاعتراف بإسرائيل ثم وظّفت «عملية السلام» صناعة استراتيجية، في درّ الأرباح، وغطّت استمرار الاحتلال والتطهير العرقي والإبادة بالعمل على «إزالة العنف»، وها هي تطالب السلطة الفلسطينية «بتضحيات من أجل دفع عملية السلام المتعثّرة»، وما زالت القيادة السياسية «شريكاً في عملية السلام»، يمكنها أن تحذّر «المجتمع الدولي» من «إمكان تقويض عملية السلام»، حيث يبلغ سيل الجرائم الإسرائيلية الزبى.
علّمنا حزب الله، كما علّمتنا حركات التحرر الكبرى، أن المفاوضات بين عدوّين تستند على السلاح، إنما تبقي اليد على السلاح. فليست وظيفة المفاوضات البحث عن السلام، أو الوصول إلى السلام، إنما وظيفتها البحث عن الحقوق، والوصول إلى الحقوق. فهي معركة قتال بوسائل خاصة بها، لا تستهدف الانتقال من حالة العداء إلى اتفاقيات السلام، فمثل هذه الاتفاقيات تخضع لشروط أخرى غير فضّ المنازعات، وهي حدث استثنائي في علاقات الدول، يعبّر عن تحالف متقدم، موحّد، في مواجهة تحالف آخر وفي أجواء حرب. فاتفاقيات السلام هي إعلان حرب على طرف ثالث، أو إعادة اصطفاف القوى استعداداً للحرب. وهذا فعلاً ما أرادته إسرائيل في إصرارها على «اتفاقيات السلام»، فقد ورثت هذا «الإبداع» عن القوى الاستعمارية أثناء مفاوضات إزالة الاستعمار، ونقلته إلى حيّز التطبيق مع الحكام العرب، الذين يجهلون الفرق بين السلم و«وضع اليد». فعندما ذهبت الميليشيات البيضاء إلى أفريقيا، في القرن التاسع عشر، لوّحت لزعماء القبائل بالخشاخيش والأقمشة المبهرجة، بيد، وباليد الأخرى وثيقة «وضع اليد» التي أفضت إلى حقها بإنشاء الجمهوريات البيضاء في أفريقيا، وقتها قالت الميليشيات إنها تعمل من أجل السلام.
على هذا الغرار، لم يأخذ «الرئيس المؤمن بالسلام»، أنور السادات، بجدول الوفد المصري المفاوض، ولم يستمع إلى مطالعات وآراء الخبراء المصريين، ولم يفاوض في «كامب ديفيد» حتى على أمن الحدود من الجانب الآخر، أو على كشف جرائم قتل أسرى حرب 67، ولم يطلب استعادة جثامين الشهداء... إنما فاوض على «المساعدات الأميركية» مقابل «السلام»، ضيّع إنجاز العبور والتضحيات الجسام في جمل إنشاء بمستوى الصف الابتدائي ووقّع على كل ما طلبه الإسرائيليون والبيت الأبيض، لدرجة أن مصر العظيمة لا تستطيع أن تفتح حدودها مع قطاع غزة حفاظاً على حقها وسيادتها، إنما ترغمها «السيادة» على إقفالها، كما لم تقبل إسرائيل.
بخلاف ذلك، أثبت حزب الله أن الخلط بين المفاوضات و«مباحثات السلام»، وبين المفاوضات و«إزالة السلاح» هو حساء قيادات سياسية، بدائية الغريزة، لا تتناوله قيادات مسؤولة. حرص على التمسك بالحقوق، فأعاد إحياء تراث عظيم من القيم الإنسانية في مسار حركات التحرر الكبرى. برهن على أن المقاومة نموذج ثالث، مختلف عن نموذج الاعتدال ونموذج الممانعة. فالاعتدال يهز رأسه بالموافقة، والممانعة تبحّ صوتها بعدم الموافقة، المقاومة تعمل على إنجاز الحقوق، وتنجزها.
* كاتب لبناني