في لبنان شباب فلسطينيون ينتظرون التوطين، ليس بمعناه السيئ، أي التخلي عن القضية الفلسطينية، كما يقولون، بل بحملهم لهويات لبنانية تسهّل حياتهم. تختلف أسباب كل منهم، إلا أن الغالبية تجمع على حبّ فلسطين، وحقّهم بعيش حياة كريمة في بلد ولدوا وكبروا فيه، ولم يقدّم لهم حتى الساعة إلّا الإحباط
ليال حداد
في المخيّمات تأخذ المفاهيم شكلاً مختلفاً، وتتحوّل التفاصيل إلى أساسيات تحكم حياة الفلسطينيين هناك. بعيداً عن فلسطين، وفي ضواحٍ فقيرة، يعيش شباب لا يذكرهم أحد إلا عند المزايدة على «حقّ العودة» ومنع التوطين، أو عند التهويل من خطر «الغريب». من بين هؤلاء الشباب مجموعة اختارت البحث عن مستقبلها والتوقّف عن دفع ثمن حملها لبطاقات لاجئين. أربعة شباب يتحدّثون عن توقهم لإقرار التوطين وحملهم لبطاقات الهوية اللبنانية الممغنطة.
تختلف أسباب كلّ منهم، إلا أن الأربعة ينتظرون القرار الدولي الذي سينتشلهم من بؤس رافقهم منذ الولادة بسبب هويتهم. «إنه التوطين»، يقولها الأربعة من دون خجل من أي تخوين أو اتّهام، «وليُبقِ الخبثاء اتهاماتهم لنفسهم».
ينظر كثير من الشباب الفلسطينيين إلى الهوية اللبنانية على أنها جواز السفر إلى الحياة المثالية. مهنّد عباس يقسم ويحلف برحمة والده وتراب غزة إنه لا يبيع القضية «بس بدّي عيش، والله بدي عيش». يعمل مهنّد في كاراج للسيارات في الضاحية الجنوبية، يذهب مشياً على الأقدام من مخيّم شاتيلا حيث يسكن مع والدته المريضة، إلى العمل يومياً، فغلاء سيارات السرفيس والفانات أصبح ثقلاً كبيراً على مصروف المنزل.
ولقصة مهنّد مع التوطين تفاصيل عدة عاشها قبل أن يصل إلى اقتناعه الحالي. حلم ابن الرابعة والعشرين كان منذ طفولته الهندسة الميكانيكية، وتفوّق في المدرسة على هذا الأساس، إلا أنّ قانون سوق العمل اللبناني منعه من تحقيق حلمه «لم أكن أعلم أنني لا أستطيع أن أعمل في هذا المجال إلا على أبواب الامتحانات الرسمية». يئس الشاب بسبب هذا الفصل العنصري، رسب في الامتحانات الرسمية، رفض التقديم في الدورة الثانية وتوجّه إلى سوق العمل، ليختار المهنة الأقرب إلى حلمه: ميكانيكي سيارات، يقولها ويضحك: «ميكانيسيان، وهندسة ميكانيك، شفتي أديش قراب حتى باللفظ». ولماذا التوطين؟ لا يجيب مهنّد، يبتسم، ويقول: «أولادي. سأتزوّج يوماً ما، لا أريد أن يعيش أبنائي الإحباط الذي عشته».
إنّه الإحباط إذاً. شعور يجمع عليه الشباب الذين يدافعون عن التوطين. «فلسطين بالقلب» يقول رامي يوسف، ولكن رامي محبط أيضاً، يريد مال التوطين، ويريد أن يرحل عن هذا الوطن، «إن كان هناك طريقة كي أحصل على المال فقط دون الهوية اللبنانية، أقبل أيضاً». يطمح رامي إلى أن يؤسس حياته بعيداً عن لبنان، وعن كل العنصرية المتفشية، حتى عند أكثر المتشدقين بعشقهم للقضية الفلسطينية. «فلسطين بالقلب»، يقولها مرة ثانية، ولكنها ستبقى بالقلب فقط بالنسبة إليه، إذ إن تحريرها خيال وسيبقى خيالاً. يتشاجر رامي يومياً مع شقيقه المقتنع بأن التحرير آتٍ لا محالة «ولنفرض أن الأمر صحيح، أليس بإمكاني أن أعيش حياة كريمة من الآن حتى يوم التحرير، هل من لزوم النضال وحب فلسطين أن أقبل بمعاملة دونية وبحياة تحكمها مزاجية رب العمل من دون أي قانون عمل يحميني؟». يثور رامي يومياً على المجتمع، وعلى اللعنة التي ترافق أبناء شعبه لذنب لم يقترفوه.
الثورة نفسها يعيشها كفاح الزين، لكن سراً، فالحديث عن التوطين في المنزل ممنوع. «والدي استشهد دفاعاً عن حق العودة، فكيف أتحدّث عن التوطين أمام أمي وإخوتي؟». كفاح شاب في السابعة والعشرين من عمره، يعمل محاسباً في إحدى الشركات الخاصة، «بس أكيد في محاسب لبناني بيمضي على المعاملات». هذا التفصيل الصغير، رغم سخافته، كما يقول، عيّنة لما يعيشه يومياً في حياته «حياتنا في لبنان ممتلئة بهذه التفاصيل المزعجة، وتفصيل فوق تفصيل يطفح الكيل، أنا فلسطيني نعم، أفتخر بفلسطينيّتي نعم، ولكن التفاصيل قتلتني». يتخيّل كفاح يومياته عندما تصبح الهوية اللبنانية في محفظته «سأذهب أولاً إلى أهل حبيبتي السابقة، لأقول لهم إن هوية بلادهم أصبحت معي، فليزوّجوني ابنتهم».
تختلف حالة روجيه نابلسي عن زملائه. فهو يسكن بعيداً عن المخيّمات والضواحي. يقول منتفضاً: «أنا لا أحبّ فلسطين... أنا لا أعرفها، فكيف بإمكاني أن أحبّها؟». يرى نابلسي أن كلامه منطقي، فهو ولد وتربّى وتعلّم في منطقة عين سعادة المتنية، البعيدة عن مخيّمات اللاجئين ومآسيهم. «أنا أحمل بطاقة اللاجئ، نعم، ولكن أنا لبناني أكثر من معظم اللبنانيين». وللتأكيد على لبنانيته «الفطرية»، كما يقول، ينشط نابلسي في صفوف أحد الأحزاب اللبنانية «بس من بعيد لبعيد، أحسن ما العالم يعرفوا»، ليس خجلاً بهويته يقول، «ولكن الأشخاص هنا يفكّرون بطريقة مختلفة، فهم لم يروا إلا الويلات من الفلسطينيين». وحين تسأل نابلسي عمّا عاناه الفلسطينيون من اللبنانيين، يجيب بتلقائية: «هذه أرضهم وهذا بلدهم، هم يقرّرون كيف يتصرّفون مع الضيوف».
يحلم روجيه بأن يمتلك الهوية التي تحملها أمّه «حتى شكل الهوية بتحسّيه غير، يعني أكيد أحسن من بطاقة مكتوب عليها من عداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان».
ولكن رغم وطنيّته اللبنانية «المفرطة»، لا ينفي نابلسي عنصرية اللبنانيين تجاه أبناء شعبه، ولكنّه يجده أمراً «طبيعياً»، وخصوصاً في المناطق المسيحية. فـ«بالنتيجة، البيئة الفلسطينية غريبة عن الجوّ المسيحي، وأنا انتمي إلى المسيحيين اللبنانيين، لا إلى أي طرف آخر. لبنان وطني ومستعدّ للاستشهاد من أجله، ولكني لست مستعدّاً لأن أفعل ذلك دفاعاً عن بلد غريب عنّي، أي فلسطين».


التوطين حلّ لتشرذم العائلة القانوني