سامي العباسما زالت الصخرة ترخي بظلها رغم شمس العاشرة. يتراجع نفوذها ولا تتراجع الرغبة في تملّي المشهد: الجرف تحت قدمي يهبط ثلاثمئة متر حيث نهير يناور بين الصخور، وشجيرات الزعرور، مخرخراً كحصان جنكيز إيتماتوف «غولساري» في رحلته الأخيرة. في الأسفل حيث ينبسط الوادي على شكل مروحة يد ملونة، تتناثر الأسطح القرميدية كقطع من البسكويت. وهناك في المدى المفتوح، حيث تنتصب غلالة حليبية من بخار الماء، يكتنف الغموض بيروت، بينما توزع حمّانا الجميلة بيوتها على المنحنيات بفوضي فنية.
على الخاصرة الشمالية للوادي المنحدر حتى بيروت، تشحب بيوت عاليه. فلا تستطيع التأكد هل هو بخار الماء أم غبار القذائف؟ صوت هذه الأخيرة يخنقه البعد، فيكتفي من الإعلان عن نفسه بالغبار... غبار هنا وغبار في سوق الغرب... وبينهما يلتجئ التاريخ خلف جدار صمد في وجه القصف، منتظراً جلاء المعركة. معركة سوق الغرب. المارينز في الأفق، والطيبة الذكر «نيوجرسي» بمدافعها من عيار أربعين بوصة. ورئيس دولة عظمى، لا يجد حرجاً في الإعلان أمام كاميرات يحسن الوقوف أمامها (وهذا جلّ ما خرج به من العمل في هوليوود، بالإضافة إلى كتابة التقارير بزملائه في المهنة): لن نسمح بأن نهزم في سوق الغرب. ولكنه سمح بإعادة النظر في أجهزة تدقيق الرمايات للبارجة العجوز، بعد أن أرجع مستشاروه الفشل السياسي ـــ العسكري إلى أسباب فنية!
وحده رئيس الأركان الإسرائيلي وفي لحظة صدق مع النفس عابرة، لامس الحقيقة حين قال: ليس بوسعنا منع رجال يصرون على الموت من أن يموتوا.
رشاقة لغة رئيس الأركان، افتقدها القرار السياسي الإسرائيلي حين وقف لعقدين وجهاً لوجه أمام قوافل الشهداء: سناء، وفاء، مالك وجمال الذي اقتحم قافلة إسرائيلية على ظهر بغل، مبرهناً أن الشعب اللبناني لن يعدم وسيلة للمقاومة. وبيروت المختبئة وراء سبطانات المدافع، تحوك على مهل أسطورتها على طريقة «بنيللوب»: عين مسهدة على البحر رغم معرفتها أن «أوليس» لن يأتي عبر اللجة بل من خلف المتاريس...
أنهض متثاقلاً نحو المدافع. جنود المناوبة يعيدون تشكيل وضعياتهم احتراماً، تحت شمس لا تعير انتباهاً لقسوتها. السبطانات مشرعة تحرس السماء لكي يكتب مناضلو المقاومة الوطنية اللبنانية لأرضهم تاريخها بحرية.
لم تكن المقاومة الوطنية والإسلامية وحدها في الميدان. كان يسند كتفها بشهدائه جيشنا العربي السوري. وعندما ينقّح التاريخ سطوره من دس المغرضين وتجار الأنتيكا السياسية والمذهبية، على تنوع ربطات أعناقهم، إلى هذا البئر من النفط أو ذاك المعلف من الأفكار: ستجرف دماء الشهداء ركام الأكاذيب. وتتموضع أسماء الشهداء في المكان المناسب من ذاكرتنا الوطنية والقومية.
إلى سمير القنطار ورفاقه... عدتم فأعدتمونا إلى الزمن الجميل.