محمد بنعزيز *من خلال متابعة واستعراض طريقة تناول الصحافة المغربية للمواضيع الأساسية بالنسبة إلى الدولة والمجتمع، نقف على خطين تحريريين:
الأول يُحيي العهد الجديد ويعدّه ثورة بيضاء قوّت دولة الحق والقانون ورسخت الانتقال الديموقراطي والمصالحة، وأن العهد اجتهد من أجل الإصلاح والتنمية البشرية وحرر المرأة، كما أنه حارب الإرهاب، وتبنى الإسلام المعتدل، ورد الاعتبار للمهاجرين، وأنجز مشاريع كبرى، وقلص مدن الصفيح عبر السكن الاجتماعي، وفتح الباب لحرية الإعلام، ثم أقام المهرجانات والأفراح ابتهاجاً بما أنجز.
هذا الخط تمثله جرائد مثل «المغربية» و«الصباح» و«العلم» و«ليكونوميست» و«النهار» المغربية و«الاتحاد» و«بيان اليوم»...
الثاني يرى أن ما يسمى العهد الجديد استمرار للعهد السابق برجال نصفهم قديم، وأن الدولة تعاني الفساد الذي يفيد المقربين من السلطة، وطبعاً تزايد نفوذ التكنوقراط، وظهور قادة حقوقيين يرفعون دعاوى ضدّ الصحافيين، والقضاء ما زال على حاله، وقانون الصحافة لم يعدّل، والاحتجاجات علامة على تزايد الفقر، وقانون الإرهاب مبرر للتضييق على الحريات العامة، وإحياء التصوف مجرد ضرب لإسلاميين بآخرين، ومدونة المرأة تعاني محيطاً سوسيولوجياً ذكورياً، ومجلس المهاجرين معين ليمثل جالية تعيش في دول تحكمها صناديق الاقتراع، والمشاريع الكبرى غير إنتاجية ولا تضمن التنمية وهي مبرر لترحيل أراضي الشعب للشركات العقارية لبناء سكن فاخر. أما حرية الإعلام، فهي مجرد شعار تدحضه محاكمات الصحف، ومنع الجزيرة، وسجن صحافي بجريدة «الوطن الآن».
لذا ليس هناك من مبرر للمهرجانات لأنها تبذير وفسق ولا تناسب المجتمع...هذا الخط تمثله جرائد ومجلات مثل المساء ولوجورنال والأيام والحياة المغربية والجريدة الأولى...
الخطان يتصارعان يومياً، الخط الأول يمتلك الوسائل والمال، والخط الثاني تسعفه الأحداث الجارية ويستغل كل حدث لتثبيت صحة تفسيره للمرحلة. وفي كل محطة حرجة، مثل انتفاضة صفرو وإيفني، يتبادل الفريقان الاتهامات والضرب تحت الحزام، وأحياناً تنزلق العبارات إلى محاولات إساءة مباشرة، وخاصة في أحداث قد تمنح الفرصة للإسلاميين مثل ما أشيع عن أنه عرس مثليين في مدينة القصر الكبير.
يتهم أصحاب الخط الأول ممثلي الخط الثاني باللاوطنية وخدمة أهداف غامضة ونشر الإحباط والمغامرة والعدمية والمبالغة والشعبوية ونشر المغالطات وفبركة الأخبار لتشويه صورة المغرب الجميل. أصحاب الخط الثاني يتهمون خصومهم برفع شعار «العام زين» كل عام، لأنهم مصابون بعمى الألوان يعيشون التناقض ويمارسون الديماغوجية والمحاباة تجاه أصحاب السلطة والمال.
أيّ الفريقين على حق؟ لكلّ قارئ جوابه. أرقام توزيع الصحف ضد الفريق الأول مما يجعل خطه التحريري متشنّجاً، يتصرف برد الفعل، لأن الأحداث اليومية لا تسعفه كثيراً، لذا فهو خط تحريري تبريري.
وكمثال، رأت جريدة الاتحاد الاشتراكي أن ما وقع في مدينة صفرو تخريب واعتداء على رجال الشرطة. ومع الخبر صور النار والدخان، أما جريدة العلم فرأت أنّ ما حصل في سيدي إيفني مجرد احتجاجات معطلين...
هذه الألاعيب تمنح أصحاب الخط الثاني فرصة لتعرية ما يجري وتعرية شعارات العهد الجديد بالوقائع اليومية مثل: مسؤول يختلس، شرطي يعتدي، ملك عام يُفوت، صحافي يتابَع، تظاهرة تقمع... ومع التكرار تترسخ الصورة في ذهن القارئ. وللتشويش على الأطروحة ونقيضها، تم تركيب خط تحريري ثالث باهت ومكشوف، يعمد إلى التعرية حين يكون المشهد هادئاً ويكون أصحاب السلطة واثقين بأنفسهم، لكن في أول أزمة يرتد أصحاب هذا الخط إلى قواعدهم فوراً ويشرعون في التبرير واتهام أصحاب الخط الثاني بالشعبوية.
يدور هذا الصراع بين الخطين التحريريّين، خط التبرير وخط التعرية، على تسمية وتفسير ما يجري في العهد الجديد، وبالنظر إلى الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وحجم توزيع صحف الخط الثاني، يمكن أن نستخلص أن خط التعرية يتقوى، وهذا يضرب خطاب الدولة حول نفسها في الصميم، لأنه يزعزع قدرتها على التعبئة ويجعل التفاف المواطنين حولها أمراً هشاً. ويصبح هذا الوضع صعباً عندما يغتني يومياً بأمثلة وأحداث لا نهاية لها، حينها تصبح حزمة مصطلحات العهد الجديد ذات معنى مفارق للواقع، فيشعر المواطن كأن الدولة لم يعد لها وجود، ولا يظهر له منها إلا وجهها البوليسي، أي القمع والضرائب، فينكمش مفهوم الدولة ليعني جهاز الأمن، وينكفئ المواطن على نفسه طلباً للسلامة، لا تعنيه انتخابات ولا تعبئة، وقد يفجّر حسّه الوطني في دعم المنتخب الوطني لكرة القدم، لكن سرعان ما يضمر ذلك الحس أمام طبقات اليأس الذي تغذيه الأمثلة اليومية للتعرية... فيصبح المنتخب عرضة للسخرية والشماتة لتنفيس السخط.
هذه هي النتيجة التي ترعب الممسكين بالسلطة بالمغرب، لأن هيمنة صحافة التعرية تخلق جواً مكدراً لا تظهر فيه البوصلة بوضوح. كمثال التقط بالصدفة من نهر الظواهر: نشرت جريدة المساء في 30-06-2008 مقالاً موثقاً وساخراً عن مئات ملايين الدولارات التي أهدرتها الدولة واستفادت منها مجموعة «الضحى» العقارية عن طريق بيع أراضٍ عامة بأسعار جد منخفضة، وفي اليوم نفسه تحدثت جريدة الأحداث في صفحتها الأولى بإعجاب عن حفل زفاف أسطوري في مراكش أقامه مدير تلك الشركة العقارية وكلف ملايين الدولارات وأحيته المطربة نانسي عجرم. وعندما يتزامن مثل هذا الخبر مع قمع انتفاضة مدينة سيدي إيفني ضد الفقر فإن الدلالات تصبح قوية جداً.
واقعة مثل هذه تنسف كل شعار وخطاب، لأن القارئ يقارن بين الفقر الموجع والغنى الفاحش في مغرب اليوم، وهذا ما يجعل الدولة تبدو كعصابة معرّاة من كل شرعية مما يخلق ذهنية خصبة للاحتجاج المنفلت بمناسبة أية شرارة عابرة. والخوف من هذه النتيجة هو الذي يشحن أصحاب الخط التبريري ضد الصحافة المستقلة، ويبرر فبركة حزب من موظفي الدولة ليمنحوها الالتفاف الذي ينقصها.
هذا ليس خطأ خط التعرية، إنه خطأ الدولة التي سمحت بالفساد وجعلت من مصلحة الأقوى عدالةً. وهذا الوضع هو الذي يمنح الصحافة المستقلة صدقيّتها، وهذه نتيجة لا سبب. فالانفصام بين خطاب الدولة وممارساتها هو السبب. ما هو الحل؟ ليست هناك خيارات كثيرة أمام الدولة، عليها إما قمع الصحافة المستقلة للحفاظ على مناعة أيديولوجية العهد الجديد أو تقوية الشرعية بتغيير ممارسات السلطة لتطابق أيديولوجيتها فتقدر على تحمل حرية الصحافة.
دروس التاريخ تنتصر للخيار الثاني، وعليه فالأيام الزاهية للصحافة الحرة قادمة.
* صحافي مغربي