مصطفى بسيوني *كانت المطبعة التي قدّمها يوحنا غوتنبرغ للعالم منذ قرون عدة معجزة حقيقية، وضعته في مصاف الرجال الذين غيروا وجه العالم. والآن أصبحت الطباعة وسيلة ضمن العديد من وسائل تداول المعلومات والأفكار، بل لا يبدو أنها أهم تلك الوسائل. إذ تنامى أخيراً استخدام شبكة الإنترنت كإحدى أهم وسائل تداول المعلومات والأفكار والمواقف. وفي ظلّ أوضاع سياسية واجتماعية دائمة التوتر في مصر، مثّلت تلك الشبكة ميداناً واسعاً لجيل جديد، وجد فيها بديلاً للآليات التقليدية والنمطية التي انتهجتها القوى المعارضة، وأخذ يستخدم إمكانات العصر للتعبير عن نفسه وطرح وجهات نظره.
وقبل مناقشة الظاهرة، يجدر بنا معرفة حجمها وأبعادها ومدى انتشارها: تشير بعض الإحصاءات شبه الرسمية إلى أن عدد مستخدمي الإنترنت في مصر ارتفع من نحو سبعة ملايين مستخدم في عام 2007 إلى أكثر من تسعة ملايين في 2008.
قد لا يمثل هذا العدد نسبة كبيرة من السكان البالغ عددهم أكثر من 76 مليون نسمة، وقد يكون معدلاً منخفضاً بالنسبة لمعدلات استخدام الإنترنت عالمياً، وخاصة في الدول المتقدمة، لكنه رقم كبير في بلد تزيد نسبة الأمية فيه على 40%، ولا يزيد توزيع كبرى الجرائد فيه على 300 ألف نسخة يومية. وبالنسبة لظاهرتي التدوين والفيس بوك، اللتين برزتا بقوة في الأحداث في الفترة الأخيرة، فإن تقريراً لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لرئاسة الوزراء يفيد بأن عدد المدوّنات المصرية وصل حتى نيسان / أبريل 2008 إلى 160 مدوّنة، بنسبة تزيد على 30% من المدوّنات العربية. وقدر التقرير عدد المدوِّنين بـ162,2 ألف مدوّن، أغلبهم في الفئة العمرية من 20 إلى 30 عاماً. كما يفيد التقرير نفسه بأن عامي 2005 و2006 قد شهدا تصاعداً في حركة التدوين، وهي فترة الصعود نفسها في الحركة السياسية والاجتماعية في مصر. ويكشف تحليل للنتائج يقدمه التقرير أن أهم ثلاث شخصيات وردت في المدوّنات المصرية هي على الترتيب: الرئيس مبارك، والرسول محمد، وجمال مبارك. أما عن الفيس بوك، فإن تقديرات تصل بمستخدميه إلى أكثر من مليونين في مصر، وقد بدا تأثير شباب الفيس بوك قبيل الإضراب العام الذي دعي له في السادس من نيسان / أبريل الماضي، إذ وصل عدد الداعين للإضراب على الفيس بوك إلى أكثر من 80 ألفاً، وارتفع الرقم إلى 150 ألفاً عند وقوعه.
حجم الظاهرة كبير إذاً، ولا يمكن إهماله أو التقليل من أهميته. فعدد المتفاعلين مع التدوين والفيس بوك يفوق بأضعاف عدد المتفاعلين مع كل الأحزاب والقوى السياسية في مصر مجتمعة. ولكن إذا كان هذا هو الحجم، فهل التأثير يتناسب معه؟ لقد برز دور المدوّنات والنشاط على الإنترنت بقوة مع صعود الحركات المطالبة بالتغيير، وظهرت تلك كأدوات فاعلة وحيوية للاتصال والتفاعل مع جمهور واسع ومتنوع. ولكن النشطاء على شبكة المعلومات ظلوا يحافظون على درجة من الاستقلالية عن كل الحركات والقوى، تزيد وتقل حسب سير الأحداث. وربما كان ظهور «كليبات» التعذيب، التي ظهر فيها أفراد من الأمن يعذبون مواطنين، وتداولتها على المدوّنات والمواقع الإلكترونية إحدى أهم المحطات في مسار حركة التدوين والنشاط الإلكتروني عموماً، وخاصة بعدما تحركت دعاوى قضائية وصدرت أحكام على أفراد من الأمن بموجب تلك الكليبات. وقد ارتبط النشاط على الإنترنت في المرحلة الأولى بقضايا التغيير والتوريث والديموقراطية والتعذيب. ولكن ما إن تصاعدت الحركة العمالية والاجتماعية في نهاية عام 2006، حتى جذبت إليها حركة التدوين. وشهدت العديد من الإضرابات العمالية الكبرى توجه المدونين ونشطاء الإنترنت إليها لنقل الأخبار والصور وللتضامن أيضاً.
لكن السادس من نيسان / أبريل كان أهم المحطات على الإطلاق في ظهور مدى تأثير النشاط على الإنترنت، وخاصة مجموعات الفيس بوك. فقد أطلق عمال المحلة دعوة للإضراب في الشركة في هذا اليوم، وسارعت حركات التغيير وبعض القوى السياسية إلى تبني الدعوة وتحويلها إلى إضراب عام. إن دخول مجموعات الفيس بوك والمدوّنين إلى الحدث قد أعطاه بعداً جديداً، وخاصة على المستوى الإعلامي، إذ أمكن إحصاء المؤيدين للإضراب عبر الفيس بوك، الذين وصلوا كما ذكرنا إلى 150 ألفاً، وبدا الأمر جدياً تماماً، ما دفع وزارة الداخلية إلى إصدار بيان يهدد من يقوم بالإضراب أو يدعو إليه، كما اعتقلت بعض الشباب الذين لعبوا دوراً بارزاً في الدعوة إلى الإضراب عبر الإنترنت.
كان هذا تحولاً مهماً في نشاط المدوّنين ومجموعات الفيس بوك، إذ مثل تدخلاً مبكراً في الحدث، ومحاولة للمساهمة في صناعته لا توجهاً لأحداث قائمة بالفعل والتضامن معها أو نشرها. ومهما كانت نتيجة هذا التدخل والخلافات على الطريقة، إلا أن طرفاً مهماً أصبح موجوداً في الحدث لا يمكن تجاهله.
أصداء السادس من أبريل جعلت شباب المدوّنين والفيس بوك أكثر حماسة وثقة في القدرة على الفعل وإمكان الاستجابة لدعواتهم، وهو ما دفعهم لإعلان إضراب عام تالٍ في الرابع من أيار / مايو الماضي بمناسبة عيد ميلاد مبارك. وكانت الدعوة بمبادرة كاملة منهم. لم تلق هذه الدعوة نجاحاً، وهو شأن الكثير من الدعاوى التي تنطلق في مصر، ولكن بدا أن المجموعات النشيطة على الإنترنت لم تعد مجرد مجموعات منفرطة أمام شاشات الحاسوب، بل أصبحت، أو على الأقل تسعى لأن تكون، أحد الأطراف الفاعلة في الحياة السياسية في مصر. وبالفعل تكوّنت جماعة تحت اسم «6 أبريل» من شباب الفيس بوك والمدوّنين.
لقد قوبلت ظاهرة صعود نشطاء الإنترنت إما بالانبهار والإعجاب أو بالتجاهل المتعالي الذي لا يخلو من الهجوم أحياناً، وكلا الموقفين لم يبذل الجهد الكافي لفهم هذا القطاع من الشباب الغاضب. إن عاملين أساسيين جمعا شباب الفيس بوك والمدوّنات وجعلاهما ظاهرة جديرة بالاهتمام. الأول هو التقنية التي تتّسم بالسرعة الشديدة والانتشار الواسع، والخروج من السيطرة، والتحرر إلى حد ما من الرقابة، كما تتيح الاطلاع الواسع على الأحداث المحلية والقدرة على نقلها فوراً والاستفادة من التجارب العالمية. العامل الثاني هو التمرد. فهذا الجيل الذي تفتحت عيناه في الداخل على الديكتاتورية والاستبداد وقانون الطوارئ، شاهد في الخارج انتفاضة تطيح ديكتاتورية سوهارتو العتيدة في أندونيسيا، وانتفاضة طرق الأواني في الأرجنتين، والمقاومة في فلسطين والعراق ولبنان. التمرد الذي يتّسم به شباب الإنترنت لا يقتصر على رفض النظام الحاكم ومقاومته، بل يمتد بدرجة ما إلى التمرد على الأطر السياسية الموجودة على الساحة ورفض الانضواء في ظلها، واعتبار هؤلاء الشباب أنفسهم حركة قائمة بذاتها. ورغم عدم انتماء هذه المجموعات لاتجاه سياسي معين، إلا أن النزعة القومية والانحياز الاجتماعي للعمال والفقراء والميول الدينية تبدو واضحة بدرجات مختلفة في خطاباتهم، ما يؤكد أن الرفض والتمرد هو المحرك الرئيسي لهؤلاء الشباب لا رؤية سياسية بعينها. كما أن فقدان الثقة في القوى السياسية والأحزاب يبدو جلياً هو الآخر. والواقع أنّ عجز القوى السياسية والأحزاب على مدى ربع قرن عن إحراز أي انتصار سياسي في مجال الديموقراطية أمر لا يبعث على الكثير من الثقة، حتى وإن وجدت مبررات لذلك. واللافت هو تراجع نسبة العضوية من الشباب في الأحزاب الرسمية وأغلب القوى السياسية، في الوقت الذي يتزايد فيه دخول الشباب إلى العمل السياسي عبر قنوات أخرى مثل حركات التغيير والإنترنت.
نحن أمام جيل غاضب وجد نفسه أمام شاشات الحاسوب متحرراً من القيود التي يرزح تحتها المجتمع، فانطلق محاولاً رسم عالمه الذي لم يستمر افتراضياً فحسب، عندما بادر هؤلاء الشباب إلى الدخول إلى الساحة متمردين على الأرض لا على الشاشات.
* صحافي مصري