«حوسبة الغمام»، مفهوم جديد تروّج له الشركة المالكة لمحرك البحث «غوغل»، فتدعو إلى نقل محتويات الكومبيوترات لتودع في الخوادم الضخمة لشركة «غوغل»، واللافت أن هذا المفهوم لم يدفع العرب إلى التفكير النقدي في توجهات شركات التكنولوجية الكبرى التي ما زالت تتحرك في العالم العربي وكأنها فوق النقد
غسان رزق
فات بيروت أن تلعب دور عاصمة العرب الرقمية، بالمعنيين اللوجستي والتقني. والأرجح أيضاً أن دُبي أمسكت بهذا الدور بقوة. لكن خَلَلاً «سلطوياً» يضرب بشدة في أحوال التقنيات الرقمية عربياً، وهو غياب صوت الحوار الحقيقي العميق والنقدي معها. وقد يُفتح لبيروت ـــ إن أرادت ـــ الباب لأداء دور عملاق.
الخَلَل سلطوي، لأن شركات المعلوماتية العملاقة تتحرك في العالم العربي وكأنها فوق كل نقد، في الغرب، حيث العقول التي تصنع تلك التقنيات وتطوّرها، فـ«هناك» توضع تلك الشركات قيد السؤال والنقد، فيجري التفكير فيها بصورة نقدية مُتبَصّرة، في ظل تفاعل عميق بين العلم والتقنية من جهة، والسياق الاجتماعي والتاريخي من جهة أخرى. والأمثلة لا تُحصى. ربما يكفي التذكير بالقرار الذي صدر من المحكمة العليا للاتحاد الأوروبي أخيراً بفرض غرامة هائلة على شركة «مايكروسوفت» وإجبارها على فصل برنامج «ميديا بلاير» Media Player، المتخصّص في ملفات الموسيقى والأشرطة المرئية المسموعة، عن نظام «ويندوز» (الذي تصنعه مايكروسوفت)، وإعطاء الشركات الأوروبية المنافسة معلومات تقنية تُمكّنها من جعل برامجها المنافسة لـ«ميديا بلاير» تشتغل على الكومبيوترات التي يُديرها نظام «ويندوز».
هل تكسر بيروت قاعدة «الغيبوبة» التي تُعانيها عقول العرب تجاه المعلوماتية وتطوراتها، فتُصبح عاصمة النقاش الحقيقي مع التطور العلمي التاريخي الذي تُمثّله ثورة المعلوماتية والاتصالات؟ هل يرتفع منها الصوت مثلاً، ليناقش موقع «غوغل» عن دعاويه المُغوية عن «حوسبة الغمام» (Cloud Computing)، التي يردّدها الكثير من العرب بصورة ببغاوية مُضحكة ومأساوية في آن معاً.
وبالاستناد إلى مجموعة من المقالات التي نشرها مسؤولون كبار في «غوغل»، مثل إريك شميدت المدير التنفيذي لـ«غوغل» وديفيد غلايزر كبير مهندسي التطبيقات فيه، يمكن تكثيف فكرة «حوسبة الغمام» بأنها دعوة كل فرد يستعمل الكومبيوتر لكي يضع كل ملفاته ومعلوماته وبياناته وأشرطته وأغانيه على موقع «غوغل»! وتُسَوّغ تلك الفكرة بأنها تُمكّن الناس من الوصول إلى معلوماتهم الشخصية وملفاتهم الرقمية من أي مكان، من خلال الاتصال بموقع «غوغل». وبقول آخر، يدعو ذلك الموقع إلى الاستغناء عن دور الكومبيوتر كأداة للعمل وكمكتبة رقمية لكل فرد، ويحض على نقل محتويات الكومبيوترات لتودع في الخوادم الضخمة لشركة «غوغل». وبدل أن يبقى كل شخص مالكاً ومتحكماً بزمام معلوماته وملفاته، يُطرح بديل لإزالة آخر مظهر لسيطرة الناس على حياتها وعلاقاتها مع العالم الرقمي، عبر ضخّ كميات هائلة من المعلومات إلى ذلك الموقع.
في المنحى التقني المحض، تبدو «حوسبة الغمام» متعارضة مع اتجاه المعلوماتية إلى صناعة كومبيوترات شخصية أكثر قوة، وبأقراص تُخزّن كميات هائلة من المعلومات باتت تُقاس بالتيرابايت (تساوي ألف غيغابايت)، ما يجعل الكومبيوتر مركز الأعمال والترفيه أيضاً. كما تتعارض تلك الحوسبة «الغمامية» مع الاتجاه إلى صنع أدوات تخزين شخصية بسعات عالية، بحيث يحمل الفرد بيده عشرات الغيغابايت.
وينطبق الأمر أيضاً على مجموعة كبيرة من الأدوات الرقمية، وخصوصاً الخلوي ومُشغّل الفيديو والكاميرا، التي تُصنع بأقراص تتزايد سعاتها التخزينية باستمرار. وبديهي أن تلك الأدوات تعطي الأفراد سيطرة كبيرة على معلوماتهم، وتبقيها في إطار تحكّمهم، وتحفظ خصوصياتهم وتعطي قوة لحقوقهم الشخصية أيضاً. إذاً، ترسم «حوسبة الغمام» صورة للمعلوماتية لا تكون فيها وسيلة لتحرير الأفراد، بل تصير أداة لربط حياتهم بموقع محدّد، فتُمسك يده القوية بكل معلوماتهم ومعارفهم. وفي انقلاب أدوار مثير للأسى، ردّدت أفواه عربية تلك الدعاوى بفرح وقد غشيت عقولها عن المسألة الأساسية المتمثّلة في أن ما يعانيه العرب هو التخلّف، وأنهم يسعون إلى المزيد للوصول إلى المعلومات المفيدة والمتقدمة علمياً، لا أن توضع معلوماتهم الشخصية، التي بالكاد يتمكنون من حمايتها من الأنظمة التسلطية والقمعية، على موقع مفرد. ويكفي النظر إلى الصين، التي تُشدّ إليها الأبصار راهناً مع اقتراب دورة الألعاب الأولمبية. يعترف مسؤولو «غوغل» صراحة بأنهم استجابوا لطلب الحكومة الصينية بفرض رقابة على المواقع والمُدوّنات الإلكترونية المُعارضة.
ويبرر «غوغل» موقفه بالقول إنه يعمل ضمن الأطر القانونية لكل بلد. وهذا ما يشير بوضوح إلى مسلكية «مُسايرة» للسلطات الرسمية. فماذا لو طُبّق الأمر على «حوسبة الغمام» إذا طلبت الحكومات الاطلاع على ملفات مواطنيها في «سُحب» موقع «غوغل»؟ وما هو الضمان الذي يعطيه الموقع للأفراد بألا تتحوّل المعلومات عن بياناتهم (وليس بالضرورة محتوياتها) إلى منجم ذهب لـ«غوغل» إذا قرّر بيعها إلى شركات الإعلان أو ربما إلى جهات «أخرى»؟