علاء اللامي *في أغلب، إن لم يكن أجمع التجارب البرلمانية المعاصرة، يجري اللجوء أو التهديد باللجوء إلى التصويت العلني للحد من هيمنة القيادات الحزبية على النواب بصدد قضايا معينة وحساسة، بحيث لا يجد النائب بُداً من التصويت مع الموقف أو القناعة الأكثر شعبية ووطنية. من العراق جاء مثال معاكس لهذا العرف: فقد طلب رئيس البرلمان محمود المشهداني (محسوب على كتلة جبهة التوافق) أن يجري التصويت بشكل سري على الفقرة الخاصة بكركوك في قانون الانتخابات المحلية. والقصة هي كما يلي: نجحت أخيراً أغلبية ساحقة من النواب الحضور (127 نائباً من مجموع 140)، وبعد مقاطعة كتلة نواب «التحالف الكردستاني»، في إقرار مشروع قانون الانتخابات المحلية.
في هذا القانون مادة تتأجل بموجبها الانتخابات في محافظة كركوك، التي يطالب الزعماء الأكراد بإلحاقها كاملة بالإقليم الذي يسيطرون عليه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وتجعل توزيع المناصب الإدارية والتشريعية مثالثة بين المكونات القومية الكبيرة (التركمان والكرد والعرب)، إضافة إلى نسبة 4% للآشوريين والكلدان. وبنتيجة إقرار القانون، مع التصويت السري على تلك الفقرة وهي لب المشكل، هاج وماج النواب الأكراد وعدد من حلفائهم من حزب المجلس الأعلى بقيادة الحكيم، وهددوا بنقض القانون بواسطة ممثلهم في هيئة الرئاسة جلال الطالباني. وقد فعلوا حقاً، بمشاركة معلنة من ممثل حزب المجلس الأعلى.
فأية دلالات تستبطنها هذه المفارقة ـــ أو ما يبدو أنها مفارقة ـــ بخصوص شكل التصويت وموضوعه في مشهد سياسي شديد التوتر والتعقيد والهشاشة في آن؟
الأزمة السياسية العاصفة التي أعقبت التصويت المذكور كشفت عن أشياء كثيرة ظلت زمناً طويلاً في عتمة الكواليس، ونظر الكثيرون إليها في الغالب على أنها لا تخرج عن إطار الشائعات الرائجة أو ما هو في حكمها. فقبل التصويت، صدر كلام مفعم بالتحدي عن قيادات «الكردستاني» بشأن محاولة تجري لكسر العظم والتراجع عن اتفاقيات منجزة. كما صدرت عن المصادر ذاتها تهديدات بالخروج عن العملية السياسية أو مراجعتها برمتها. أما بعدما وقعت الواقعة، وصُوّت على القانون ومن ضمنه الفقرة الكركوكية، فقد حدث فرز سريع وشامل للقوى والمواقف والصفقات، نقول عنه إنه جديد مع أنه لم يأتِ بجديد، ولكنه جعل تلك القوى والمواقف والصفقات، للمرة الأولى، رسمية وفي الهواء الطلق وعلى عينك يا تاجر كما يُقال. فقيادة المجلس الأعلى، ورغم تصويت بعض نوابها لمصلحة القانون، انحازت علناً إلى موقف «الكردستاني» وخرجت على الإجماع العربي «السني ـــ الشيعي» المتحقق. بل إن نائب رئيس البرلمان الشيخ خالد العطية، المحسوب على تلك القيادة، بالغ ـــ كما قال بعض المراقبين ـــ في انحيازه وانسحب محتجاً مع النواب الكرد المنسحبين، ووجه نقداً شديداً لزملائه المصوتين بنعم، احتجوا هم بدورهم عليه في الجلسة التالية، وانسحب أكثر من مئة نائب منهم لنصف ساعة. وبهذا يكون حزب السيد الحكيم قد أوفى (وزيادة) بشروط الصفقة، أو الصفقات التي عقدها مع القيادة الكردية.
أما قيادة الحزب الشيوعي العراقي «جناح حميد مجيد» فقد انحازت بدورها إلى جانب «الكردستاني» وانسحبت من القاعة، وما ثمة جديد هنا. فقيادة هذا الحزب عريقة في تبعيتها للأحزاب الكردية القومية، وإذا لم يكن الأمر يتعلق بصفقة معينة، فإنّه، يقيناً، يتعلق بتقليد قديم من تنفيذ أوامر المتبوع من جانب التابع وقد تكرر ذلك في العديد من المناسبات.
جبهة «التوافق» وقائدها الفعلي الحزب الإسلامي بزعامة طارق الهاشمي، كانت على موعد مع الارتباك والغموض. إنها، وإن بدت مؤيدة للقانون وفقرته الكركوكية، متساوقة مع الرأي العام للوسط الذي تنشط فيه خصوصاً، ولكنها كانت قد قيَّدت نفسها بأكثر من صفقة، لعل أشهرها اتفاقية «دوكان» ذات الصلة بقضية كركوك التي حاولت، لفظياً على الأقل، التملص منها. ولكنها في هذا التصويت، سارت مع المصوتين بنعم ونكثت، كما اتهمتها قيادة «الكردستاني»، بشروط آخر صفقة مُنحت بموجبها الثقة لوزرائها العائدين منذ حين إلى حكومة المالكي.
وحين سارعت قيادة «الكردستاني» إلى ابتزاز «التوافق»، وأعلنت مصادرها عن أن ممثل التوافق في هيئة الرئاسة الثلاثية صوّت مع المصوتين على نقض القانون، كذَّبت التوافق الخبر. لكنّ تكذيبها، رغم وضوحه، لم يكن شافياً، وما زال الموقف الرسمي معلقاً بانتظار عودة ممثلها في الرئاسة من زيارة رسمية قام بها إلى تركيا ـــ ويا للمصادفة ـــ في اليوم ذاته!
على الجانب الآخر، جانب المصوّتين بنعم، سادت حالة من النشوة التي لا محل لها. ففيما سارع «الكردستاني» وحلفاؤه إلى خنق القانون الجديد ونقضه وامتصاص تداعياته، اكتفى المصوتون بنعم بما أنجزوه ولم يطوروا أداءهم إلى شكل أو امتداد تنفيذي آخر.
إن سيادة الأفعال المرتجلة، وردود الأفعال الأكثر ارتجالاً، ليست هي التفسير الوحيد لكل هذه المفارقات. فالعملية السياسية التي تدور في ظل الاحتلال الأجنبي وبقيادته، تشكو خللاً عميقاً وأساسياً نجد خلاصته في أن هناك تناقضاً حقيقياً وعميقاً بين طبيعة المجتمع العراقي وتقاليده وحالة الاحتلال الأجنبي الذي فرض نموذجاً للحكم «المحاصصاتي».
أما المزاعم بوجود «حكم ديموقراطي محلي يتمتع بالسيادة»، فيمكن التدليل على خوائها وزيفها من أن النواب المنتخبين «ديموقراطياً» لا يجدون حريتهم في التشريع إلا سراً، وبعيداً عن زعاماتهم التقليدية المتشبثة بالصفقات الحزبية السرية ونتائجها.
تناقضات كهذه لا يمكن القفز فوقها، دع عنك حلها حلاً جذرياً بتكرار الأخطاء وعقد الصفقات السرية القائمة على أساس التشاطر والكسب السريع واحتراف التدليس...
* كاتب وصحافي عراقي