«الرسام يكتب ألوانه على لوحة، والكاتب كلماته على ورقة، أما العازف فهو لا يكتب موسيقاه إلا على صمتنا، أو على وحدتنا» (ليوبولد ستوكوفسكي)

خضر سلامة
طالعاً مثل سنبلة حزنٍ في ليل الغربة الفرنسي، تحاصرك الأسماء التي لا تعرفها، والوجوه التي لا تعرفك، وحدك تبحث عن يدٍ تنشلك من رهبة «السين»، وسطوة «الرين»، خطواتٍ تثقل الرصيف بسؤالك الدائم عن صوتٍ يشبه ما في قلبك، لا رفيق هنا إلا هذا اللون الأخضر النابت من أنامل عجوزٍ ستيني ألقاه الزمن بين أضلع الشوارع القديمة الآتية من زمنٍ أوروبي غابر، لونٌ ربيعي يخرجه صوت عزفه على قيثارةٍ ثكلى بأساطير كثيرة، صُنعت كلها من موسيقى.
عازفو الشوارع، ظاهرة منتشرة في المدن الفرنسية، ظاهرة لا يخنقها الشتاء بقسوة البرد ولا يغريها الصيف برشوة دفء، لكل الفصول أصابع من موسيقى، لها عدد الأوتار نفسه، مشاهد تشد السائح لاكتشاف معلمٍ مهمٍ من معالم حكايات المدن هنا، زحمة المستمعين والمارة لا تحجب عنك التناقض الجميل والممتع بين الدورة المادية للمحيط، وحركة الأنامل وملامح الوجه وتفاصيل الزي وتفاعل الفنان مع لحنه، معادلة تجد نفسك مضطراً للاستسلام لها، رافعاً يديك أمام براعة يدين تتراقصان كغصني زيتونٍ تحت عصف الوتر، أنت لا بد تعلّق مرورك على عتبة الصوت والدهشة وحب اكتشاف الاحتمالات التي يخرج منها كل عازف يتكوّم فوق كوبٍ من موهبة.
«الموسيقى هنا، هي الهوية الوطنية لفرنسا» يبتسم روبير الذي يحتل بموسيقاه ساحة مدينة ستراسبورغ شرقي فرنسا، «الموسيقى هي ماركة فرنسية مسجلة، مثل برج إيفل، مثل قوس نابليون، أما في الألزاس، فالأكورديون الذي يلهو بين أناملي يقاسم النبيذ مائدة العائلة، له المذاق الطيب ذاته في النفوس، وفي الذاكرة»، روبير يجلس أمام كاتدرائية المدينة الأشهر، قبعته خزنة أمواله، يتحول فيها تصفيق المارة إلى قطع نقدية «تكفيني لشراء رغيف خبزٍ وبيرة». تكاد الكلمات كلها تقنعك بملامح قصيدة مرت من هنا، لا بد من تأريخ لهذه اللحظة، لهذا المشهد، من منحوتةٍ تخلّد «اشتراكيةً عفوية» لا تتكرر إلا بقوة الفقر والموسيقى: متشرد وأكورديون ورصيف هرم.. ما أعظم ما قدمت الصدفة لعينيك العابرتين من هنا.
عيناك عبرتا عند أقدام آخر نسل آلهة الإغريق، فاترك كلماتك قرباناً أمام عظمة ما سمعت، وما رأيت.
عطش الأذن لسكينة الكلاسيكيات الجميلة، لا يطفئه إلا البحث المستمر عن لحنٍ آخر، في كل «عجقة» العالم المنهمك بفوضاه، تسمع شيئاً آخر وجميلاً. مقامٌ عراقي يأخذك إلى شارعٍ منكوب بالحزن قرب نخلةٍ رحلت من بغداد إلى ما وراء المتوسط، تبحث عن لغةٍ أخرى تشبع النهم إلى حياةٍ كريمة هانئة، «تعال أعرّفك إلى نورس»، يوقظني صديقي الفلسطيني من صمتي، نورس ابن الناصرة التي لا تموت، خرج من العراق منذ زمن المغول، وحطّ رحاله بين شرايين الغربة، فغدت تشنقه بالحاجة، صار هو والعود رفيقين يلاحقان المتخمين بالمال، ليعطفوا على متخمٍ بالجوع وبالموسيقى: «أجيت عأوروبا عم أحلم براحة البال، في إشي بريّح أكثر من أنك تسمع موسيقى كل النهار، أو إشي أجمل من أنك تحس نفسك نجم قدام عشرة أشخاص عمّال يتسمعولك؟».
كلا يا نورس.. لا شيء أجمل من عودك، ولا من سطوع نجمك، ولا من لكنتك التي تمزق جدار المسافات أيضاً..
من ستراسبورغ تحملك الساعات مرهقاً إلى باريس، مسقط رأس الأعراق والحضارات، يحاصرك عزف أفريقي أسمر من هنا، كمان روسي بارد وهادئ هناك، إيقاع اسكتلندي يركض في ساحةٍ من حرية.. يأخذك الشارع إلى مدخل المترو، ليعتقلك «كاميلو» هناك، المتأنق بغيتارٍ إسباني، يفرض الصمت على الضوضاء الباريسية ومن ثم يلوّنه بالعزف، تنتظره حتى ينتهي، لا يطلب مالاً، هو عازف لأجل العزف فقط، لأجل الآخرين على حد تعبيره، يحضر إلى المترو، يجمع كاميلو أغراضه، وقبل أن يغادر الحوار، يضع هدية في يد المعجب بعزفه، ألبوم «كلاسيكو»، هو عمله الموسيقي الأول، مجموعة مما عزفه من مقطوعات باخ وأنطونيو لاورو وفرانسيسكو تاريخا، ليس عازفاً عادياً، ليس محاوراً عادياً أيضاً، هو محترف لما يصنعه، محترف لصناعة النغم، لصناعة الموسيقى.
كلها أمثلةٌ عن صورٍ تجمعها في ذاكرتك من موزاييك موسيقى الشوارع الفرنسية بقصصها وحكاياتها، العازف الذي يصنع لك من الطريق أحجيةً، أو الكامن لك خلف ضجر العبور اليومي في المترو، أو الذي ينتظرك على زاوية الشارع متجهزاً لتصيد حاسة السمع منك، هو يعرف جيداً كيف يترجم المواسم إلى كتابات يقرأها العالم كله بالدهشة والصمت نفسيهما، ويشدك من بين فرح الأعياد وحزن الوجوه والتعب اليومي وحشرية الإنسان، إلى علبةٍ ذهبية تحوي ألف حديث وتصفيق طويل.. ويعرف كيف يعطيك هدوءاً أو يملأك حياة، دوماً لهم، للعازفين، القدرة على خطف انتباهك وإجبارك على إسقاط وعيك المكتظ بأفكار كثيرة، أمام غموض ما تراه من حياة، وأمام وضوح ما تسمعه من سِحْر.
وبعد كل ذلك، تبقى لكل شوارع المدن نكهتها الخاصة، التي لا تكتمل إلا بـ«بهارات» العناصر والتفاصيل والملامح والأصوات الملونة بالقصص، كهؤلاء، كالموسيقى، وفرنسا لها ختمها الذي تتركه على جبينك قبيل أن تغادرها، ثملاً بقيثارة، بأكورديون، بعودٍ وافدٍ أو بأغنية شعبية، مخدراً حد النشوة، مأخوذاً بجمال كل شيء.


ون رجالاً ونساءً

يبلغ عدد الموسيقيين المحترفين في فرنسا 25 ألفاً، يؤدون مختلف أنواع العزف الموسيقي، وهذا العدد يظهر تطوراً واضحاً في الساحة الفنية الشعبية في فرنسا، في الثمانينيات حين لم يكن يتجاوز عددهم حاجز الستة آلاف محترف موسيقي، 72 في المئة من الـ25 ألف عازف يعملون أكثر من 507 ساعات خلال عام، وتشير مجلة لكسبانسيون، إلى انخفاض وجود الجنس اللطيف، حيث تبلغ نسبة العازفات 24 في المئة فقط.