سيد محمود
يوم رأته ابنتي في الشارع لأول مرة قالت: «هذا الرجل يشبه غاندي». كانت تتحدّث عن صورة الزعيم التي رسّخها الفيلم الشهير الذي أدّى بطولته بن كينغسلي، لكنّها لفتت انتباهي إلى مساحة الشبه بين الثائر الهندي المعروف ومكاوي سعيد الذي أصبح فجأة من مشاهير الكتّاب المصريين. ربما كان التسامح نقطة اللقاء الرئيسة بين الشخصيتين، فسعيد الذي عاش على هامش الحياة الأدبية المصرية عشرين عاماً ينظر إلى نفسه كما ينظر إليه أصدقاؤه في المقهى على أنّه مجرد شخص متسامح مع نفسه ومع الآخرين. لم يُضبط مكاوي يوماً وهو يهاجم كاتباً منافساً. الحقيقة المرّة جعلته دائماً «مطروداً من حلبة المنافسة»، فعانى لسنوات إهمالاً نقدياً لا مبرر له.
اليوم بات مطلوباً من «ميكي» ــــ كما يناديه أصدقاؤه ــــ أن يتعايش مع لحظات النجاح التي تتوالى وفق قانون المصادفة، بعدما وصلت روايته «تغريدة البجعة» التي نشرها بنفسه إلى القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية العام الماضي، وتحوّل معها إلى كاتب مشهور... وخصوصاً بعدما نالت أيضاً «جائزة الدولة التشجيعية» رغم أنّ صاحبها لم يترشّح لها. لكنّ اللجنة رأت أنّ الأعمال المقدَّمة لا ترقى إلى مستوى الفوز... فاختارت أن ترشّح عملاً من اختيارها.
بفضل حمى الجوائز المتتالية، انتشرت الرواية في أوساط شعبية لم تتحمس قبلاً لهذا النوع الأدبي. إلا أنّ مشهّيات رواية سعيد كانت مغرية بالقراءة، فالمحيط الجغرافي لعالمها لا يتجاوز حدود وسط البلد التي يسمّيها المثقفون المصريون «مثلث الرعب». كما أنّ الحكاية تجمع قصة عشق بين شاعر ومخرجة أميركية ترغب في صناعة فيلم تسجيلي عن أطفال الشوارع. ها نحن مجدداً أمام مواجهة بين الشرق والغرب. يسهل اكتشاف نقاط شبه بين عالم الرواية الشهيرة «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني وعمل مكاوي سعيد. إلا أنّ القارئ المدقّق لا يفوته أنّ عالم «ميكي» أغنى بكثير. ربما لأنّ معرفته بقاع المدينة أعمق وأكثر صدقاً... فضلاً عن خلوّ روايته من الأحكام الأخلاقية التي تمتلئ بها «يعقوبيان». والرواية المذكورة تصدّرت صفحتها الأولى عبارات الشكر التي وجّهها الأسواني إلى صديقه مكاوي سعيد الذي كان مجهولاً يومها. لم يتوقف القراء أمام اسمه، بل أغرتهم بحور النميمة التي يطفح بها العمل، وقد وصفه الناقد فاروق عبد القادر بـ «أدب التلسين».
العارف بالسنوات السابقة في حياة «ميكي»، تستوقفه إشارات كثيرة تجمعه بالأسواني. تشاركا منذ سنوات في تحرير مجلة «زرقاء اليمامة» الأدبية التي توقفت عن الصدور بعد عددين فقط. كما أنّهما يسكنان في منطقة «غاردن سيتي» الراقية. ولا تزال المودة قائمة بينهما، فالشهرة قادتهما إلى عوالم جديدة ومجتمعات راقية يتعامل معها مكاوي بحذر وتردّد مَن لا يرغب بالانخراط كاملاً في أوساط يعلم أنّه وافد إليها.
لم يغير مكاوي من جلساته اليومية على المقهى، ولا من المطاعم الفقيرة التي يرتادها بصحبة أصدقائه. يقول: «لم أتغيّر. لكني أمشي في الشوارع بتردد ورهبة. يحدث أحياناً أن يستوقفني شخص ليسألني عن الرواية. وهنا تكون الورطة لأنّي لست متحدثاً جيداً بطبيعتي الخجولة».
في معرض لندن للكتاب الذي حلّ العرب ضيوفاً عليه، في نيسان/ أبريل الماضي، لم يتحدث «ميكي» في الندوة التي جمعته بكتاب «بوكر» سوى دقيقتين. بل اكتفى بعبارات الإشادة التي أسبغها على العمل الناقد فيصل دراج بقوله: «في «تغريدة البجعة» الشكل الروائي مأخوذ من واقع اجتماعي متحوّل متبدّل، ويعين الشكل الجديد مدخلاً إلى قراءة الواقع وتحولاته، في عمل روائي جميل يرثي زمناً غنائياً مضى، ويصوغ المستقبل المحتمل بأسئلة بلا إجابات».
هذه الأيام، يتحدّث مكاوي عن الحلقات التي يكتبها في إحدى الصحف اليومية بعنوان «مقتنيات وسط البلد» يكشف فيها عن تاريخ شفهي مجهول لوسط البلد، صنعه موهوبون رمت بهم الحياة خارج جنتها الوهمية، فباتوا أقرب إلى المرضى والمجانين. يحكي عن عبارات الإعجاب التي تلقاها من كتّاب مكرّسين أمثال بهاء طاهر وعلاء الديب وخيري شلبي يدعونه إلى الاستمرار في كتابة هذه الحلقات بكل ما فيها من لمسات تجعلها «ابنة شرعية للأدب»، لأنّها تقبض على اللحظات الهاربة من الحياة التي عبرها هؤلاء ولم يلتفتوا إلى ما فيها من قسوة. إنّها طريقة أخرى يأتي بها مكاوي لقراءة الواقع الذي يعرف تحولاته... لكن خارج مساحات الرثاء التي وصمت «تغريدة البجعة». لا يكتب بمنطق النوستالجيا، لكنه يؤرخ لزمن عبر وبتحرر كامل من الرغبة في تثبيت اللحظة أو العالم الذي يعشقه.
بعدما كتب حلقتين من نصّه الجديد، لم يرتبك أمام عشرات العروض التي جاءته من دور نشر كبيرة، فقد اطمئن إلى لحظات التكريس التي يعيشها وتجعله واثقاً من صحة خيار فني بدأه قبل سنوات عندما قرّر ترك وظيفته المرموقة كمراقب مالي للتفرغ للكتابة. هذا القرار كلّفه أكثر من 6 سنوات بلا عمل ولا دخل، منخرطاً في كتابة الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة وهي الصناعة التي مدّته بتقنيات أغنت كتابته.
قبل «تغريدة البجعة» كتب مكاوي ثلاث مجموعات قصصية هي «الركض وراء الضوء» و«حالة رومانسية» و«راكبة المقعد الخلفي»، إلى جانب رواية «فئران السفينة» التي قدمت في أربع طبعات... وهي أعمال نالت جوائز عربية مثل «جائزة سعاد الصباح». لكنه الآن يباشر طباعتها من جديد في دار النشر التي يديرها من مقهى «زهرة البستان» بالشراكة مع صديقه محمد صلاح، لكي تحظى بقراءة أفضل. وفي الدار أيضاً، يصرّ سعيد إصرار المغامر على طباعة الأعمال الشعرية. يضحك وهو يقول: «هي مغامرة لكنّها ليست بالنبل الذي تتصوره. الشعر طبعاً لا يبيع، لكن أن تنشر للشعراء أفضل من أن تسمح لهم بكتابة رواية لمنافستك».
إضافة إلى ممارسة مهنة النشر، يعاود مكاوي الحنين لكتابة الأفلام التسجيلية. فقد كتب سيناريوهات مأخوذة عن أعمال نجيب محفوظ الذي يرى أنّه «كاتب قاهري بامتياز». ويصرّ «ميكي» في مفاوضاته مع شركات الإنتاج الدرامي التي ترغب في تحويل روايته إلى مسلسل تلفزيوني، على أن يكتب السيناريو بنفسه. يقول «الشهرة سمحت لي بالمقاوحة» وفرض الشروط وهي فرصة لن أتركها، فاليوم صار لقب «الكبير» يتبع اسمي بينما كنت قبل شهور «الكاتب المجهول» لكنّ اللقب الجديد لا يعكّر مزاجي، ولا مزاج أصدقائي، فما زلت الشخص نفسه، متمسّكاً بطقوسي كلّها، ما تغيّر فقط أنّني أستخدم التاكسي بدلاً من «الباص»، و«الكتّان» بدلاً من «الجينز». أما لقبي الجديد فأستخدمه فقط في مواجهة كل من أتعب قلبي زمان. فالشهرة يا صديقي مجرد حجر رُفع من مجرى النهر الذي ظل مسدوداً لسنوات، اليوم فقط صار ممكناً أن تخصّص مجلة أدبية مثل «الثقافة الجديدة» عدداً كاملاً عن أعمالي، بينما كانت هيئة تحريرها قبل عام تلوّعني شهوراً لتنشر لي مجرد قصة قصيرة».


5تواريخ
1955
مواليد القاهرة
1982
أصدر أولى مجموعاته القصصية «الركض وراء الضوء» على نفقته الخاصّة
1990
حصل على أوّل جائزة أدبية من مؤسسة «سعاد الصباح» عن باكورته الروائية «فئران السفينة» التي صدرت في طبعة ثانية عن «دار ميريت» عام 2005 وطبعة ثالثة عن «الدار» عام 2008
2007
صدور «تغريدة البجعة» التي وصلت إلى التصفية النهائيّة لجائزة «بوكر» العربية في دورتها الأولى
2008
نال جائزة الدولة التشجيعية عن «تغريدة البجعة» وصدور الطبعة السادسة للرواية وطبعتها العربية الأولى عن «دار الآداب» في بيروت