هشام نفاع *لقد جرت محاولات أميركية حثيثة، بتواطؤ عرب رسميين، لجعل ذلك المحور حقيقة ناجزة تسيطر على العقول وتبلور الوعي العام لتمرير مشاريع هيمنة سياسية واقتصادية. كانت تقنيّات الترهيب أشبه بحكايا الغيلان والأشباح التي يخوّفون الأطفال بها ضمن الأساليب التربوية غير المحبّذة. أما الآن، فقد وصل الأمر درجة لم يعد فيه مجدياً حتى مواصلة الثرثرة بشأنه. وهناك نتائج سياسية حقيقية: الرئيس السوري خرج من قبو «محور الشر» مباشرة إلى حفل استقبال رسمي تحت أضواء باريس؛ مجموعة من الدبلوماسيّين الأميركيين تستعد ربّما الآن للقيام بمهمة تمثيل واشنطن في طهران للمرة الأولى منذ أكثر من ربع قرن؛ حزب الله يتبادل اليوم وجهات النظر والإطراءات الدبلوماسية مع رئيس هيئة الأمم المتحدة لا أقلّ؛ حركة «حماس» أنجزت تهدئة مع إسرائيل وتستعدّ لعقد عملية تبادل أسرى معها وتطبيقها، رغم جميع الأحاديث / التكتيكات الإسرائيلية لرفض أي اتصال معها.
بالمجمل، جميع محاولات إخراج المناهضين لإرادة البيت الأبيض من حيّزات الشرعية الدبلوماسية تذهب مع الرياح نفسها التي تأخذ معها جورج بوش وزمرته بعيداً عن المنابر السياسية الأولى.
يصحّ التوقّع أنّه لن يبقى قريباً من عملية صناعة فكرة ذلك «المحور» تسويقه وفرضه إلا ما يشبه بقايا ملصقات دعائية ممزقة فوق الجدران لفيلم سينمائي مثير، لكنه، لشدة إثارته بالذات، ذو أجل قصير.
لا يعني هذا أن صناعة هذا النوع من السينما ستتوقّف، لكن آخر الأفلام وصل نهايته في صالات العرض. فلا بدّ أن هناك مموّلين يدرسون الآن سُبل إعادة إنتاج صيغة سياسية جديدة تُبقي على مصالحهم، وهذه الأخيرة لا يهمها بوش ولا غيره، لأن بوش نفسه وسيلة لها. أي إننا لن «نعاني» من فراغ أميركي!
من هنا، على سبيل التلخيص المؤقّت، وجب أمران: الأول، الاستفادة من تجربة هذه السنوات الأخيرة التي انتهت إلى فشل أميركي رسمي محدود لكنْ مبارك، عبر تفعيل العقل لا العواطف.
والثاني، بناءً على الأول، عدم الإسهاب في احتفاليّات النصر، ولربما لا بأس من اعتماد مضادّات عقلانية ـــ واقعية للحدّ من الإفراط في نشوات النصر. مثلاً، يجب الحذر من التوجّه نحو المستقبل القريب بناءً على أحلام يقظة إراديّة من نوع «قرب نهاية إسرائيل». نهاية أية دولة في العالم ليست مسألة عابرة، هذا تغيّر استراتيجي هائل. من يبنِ استراتيجيته على العواطف فسيجد نفسه قريباً في موقع الخاسر، فمهلاً. لا أحد يحتاج إلى تلك الأجواء التي رافقت حزيران 1967 وما ترتّب عليها. من يهمل قراءة الواقع، فسيجد الواقع يهمله بعد حين.
إسرائيلياً، كان لافتاً ما توصّل إليه أخيراً مسؤول سياسي إسرائيلي كبير سابق، هو شلومو بن عامي الذي تولى وزارة الخارجية بين أواسط 1999 وحتى مطلع 2001. إذ كتب في مقالة (أواخر تموز) أن سياسة بوش الخارجية فشلت «فشلاً ذريعاً» لأنها قامت على تصوّر خاطئ مفاده أن «محور الشر هو ائتلاف لدول مجنونة، اهتمامها كله منصبّ على زرع الشر حولها». وشدّد منتقداً على أن ذلك الائتلاف «لا يعني استعمال التكتيكات المتطرفة الجنون بالضرورة. فسوريا وإيران غير معنيتين بأن تأخذا دور المعزولتين عن الجماعة الدولية. إن سياستهما تؤيد دفع الأهداف التي يمكن وضعها على مائدة التفاوض أكثر مما تريدان إشاعة الإرهاب والثورة. وهما عالمتان جيداً بقيود تشجيع عدم الاستقرار، وتترقبان إدارة أميركية أكثر وداً تكون مستعدّة لإجراء حوار معهما».
لا يزال من الصعب تقدير الشكل الذي سيقرّه مسؤولو المؤسسة الإسرائيلية للانسجام في هذا الواقع المتغيّر، وخصوصاً أن الأنظمة العربية «المعتدلة» التي بنوا عليها، تدخل أزمة هي بمثابة الارتداد العكسي لاتساع حيّز المناورة السياسية لدى «المتطرفين».
وسط كل هذا، هناك سؤال عن ذلك الطرف الذي لم يستفد أبداً من هذه التغيرات. وهو الفلسطيني. فإن كانت «حماس» حققت، خارجياً، خطوات للأمام على سبيل اعتلاء سكّة سياسية لا البقاء في فلك الشعارات الضبابية، نراها تنكفئ للوراء داخلياً في خضمّ رقصة الموت بينها وبين «فتح». فاللحظة الفلسطينية الداخلية الراهنة محكومة بالسلوك الانفعالي. صحيح أن هناك اختلافات سياسية بين الطرفين؛ طرف أسرف بل قامر بتعويله على واشنطن، وآخر يتبنى نهج مقاومة عقائدية، وكلا الأمرين يحول دون صياغة برنامج مقاومة وطني شامل. ولكن، وكأن هذا لا يكفي، حتى انخرط الطرفان في حرب ضروس على الإمساك بسلطة انفرادية تحت الاحتلال الإسرائيلي، هي أشبه بالعشائرية منها بالخلاف السياسي.
«فتح»، أو بالأحرى المؤسسة المتنفذة في هذه الحركة، تواصل رهانها الخطير عبر وضع «حماس» في نقطة أبعد عنها من إسرائيل.
أما «حماس»، فمن جهتها تنسجم في هذه اللعبة، عملياً، حين لا يتردّد بعض كبار متحدثيها في إطلاق نعوت العمالة والتخوين صبحاً ومساءً على خصومهم. وبين هذا وذاك، يصبح التخلّص من الاحتلال الإسرائيلي مسألة ثانوية قياساً بالأولوية العجيبة التي اختارها الطرفان وهي الإصرار على الحسم الداخلي بمفردات العداء وسياسات الانقسام وممارسات السلاح.
المفارقة المؤلمة هي أن كل طرف يبذل كل الجهود للحفاظ على «تهدئته الخاصة» مع الاحتلال الإسرائيلي: هذا بمواصلة تفاوض عقيم من رام الله، وذاك ببذل كل ما بوسعه للحفاظ على سلطته المحاصرة في غزة! بينما لا يكلف أحدهما عناء تكبّد مسؤولية الوصول الى نقطة التلاقي الوطني الضرورية حفاظاً على القضية الفلسطينية التي تثقب جسدها الآن الرصاصات والقذائف التي يتبادلها الفصيلان الغريمان على الانفراد الإطلاقي بسلطة وهمية، تقطّع فضاء تطبيقها جدران وحواجز ومنشآت ومستوطنات كولونيالية.
* صحافي فلسطيني