نسيم الخوري *لأنّ الثلاثة يفهمون في العمق وبالتجربة، استراتيجية القوة والنصر كما معاني الضعف والهزيمة على السواء، ولأنهم يعملون بجهود مميّزة، في زمن السلم أكثر بكثيرٍ من زمن الحرب. والمفارقة أنّ دولة كبرى تعمل بين دولة غير محددّة بعد، وبين حزب تقلقه بعض دولته، ويعصى عليه أن يكون دولة. تلك معادلة جديرة بالتوقّف في زمن الأورو ـــ متوسطية، حيث يتحول «خطّ العداء» الأوروبي من الشرق المستيقظ أرثوذكسياً إلى الجنوب المستيقظ إسلامياً:
1ـــ لو لم يكن حزب الله قويّاً يفهم بالقوة والعزّة والكرامة، لما كان انتصر أو صمد عالي الصوت والنبرة والحضور، مستعيداً أسرانا وأسرى العرب ورفاتهم باحترام كبير. والمعروف أنّ ملفّي تبادل الأسرى بين حزب الله والعدوّ الصهيوني قد خلصا إلى نهايتهما الرائعة في 2004 و2008، بما منح المقاومة في لبنان ومنه، عزّة أن نرى الكثير من العقالات والقبعات العربية والعالمية العالية ترتفع عن الرؤوس المنحنية في عواصم العرب والعالم وفصائل فلسطين لهذا النجاح الباهر المصحوب بسريّة مطلقة تضاعف القوّة والاحترام والانضباط والثقة، كما الخوف والمفاجآت لدى الأطراف الثلاثة. فالقوّة لا تكون مجدية لمن لم يفهم بالهزيمة والضعف والهوان تماماً كما يفهم بالنصر. وحزب الله يفهم بالنصر كما بالهزيمة في العمق، كونه انبثق من تراكمات لا تحصى من الهزائم العربية في الصراع مع إسرائيل، وتجذّر مقاوموه أساساً ببنى الأحزاب في لبنان ومقاتليها ومناضليها الذين تشابهوا كثيراً في الانتماء والنشأة ووجهة النضال قبل نشوة النصر.
2ـــ إسرائيل بانتصاراتها المتكرّرة الهائلة على العرب، كادت وكانت تعوّض عن هزائم اليهود واضطهادهم القديم وتشتتهم، وخصوصاً من ألمانيا النازية، فبدت ديكاً قويّاً مزهوّاً، ومُحتضناً من الغرب، قائمتاه في الأرض وجناحاه في السماء يمطران قذائف وقتلاً وتشريداً. وكانت لا تفهم إلا باعتماد القوّة بمعانيها وأساليبها المتوحّشة المتجاوزة كلّ عرف وقانون دولي، بهدف الصمود والاستمرار، وهي على الأرجح، باتت تفهم بالهزيمة اليوم، للمرّة الأولى منذ إنشائها، إذ جاء صمود حزب الله ونصره عامي 2000 و2006 باعترافها واعتراف دول العالم، محطّة مفصلية في تاريخ هذا الكيان الذي يبدو يعاني التصدّعات السياسيّة والنفسية، بحيث ذاق مرارة الهزيمة المعاصرة، بعدما كاد يطبق على الكرة ويزعزعها بمكره ودهاء أبنائه المشتتين في الأرض.
3ـــ أمّا ألمانيا، فهي الدولة الحاضرة للنجاح في المهمات عند إغلاق الأبواب، والتكلّم همساً. وما حضارة النوافذ والأبواب الموصدة إلاّ إشارة ألمانية لدولةٍ أوروبية عريقة في الفكر والفلسفة، سبق أن أغلقت الأبواب على نفسها بحثاً عن أسباب الهزيمة المروّعة التي ألحقتها بها أميركا في الحرب العالمية الثانية.
والكلام عن ألمانيا يستدرجنا إلى الكلام عن القوّة في بذرتها الأولى التي أرساها فريديريك نيتشه الذي افتتح القرن العشرين بتطاوله الكامل والنهائي على الفكر الديني، إذ أعلن موت الله في عام 1900، داعياً في كتابه «هكذا تكلّم زرادشت»، إلى فكرة الإنسان المتفوّق أو السوبرمان الذي اتّخذ شكله الواقعي في الأفلام الأميركية والشاشات المتنوعة في ما بعد، وألهب مخيلات الأطفال والمراهقين في المعمورة، وقد تأثّر به جبران خليل جبران في كتابه «النبي» بشكلٍ واضح.
ليس جديداً القول إنّ ألمانيا هي الدولة الوحيدة في العالم التي ما زالت جامعاتها ومثقفوها يتمسّكون بضرورة دراسة الفلسفة بمعانيها التقليدية الإغريقية، قبل ولوج أي اختصاص في العلوم الإنسانية أو العلوم المحضة، على اعتبار أنّ الفلسفة تصقل الذهن وتبلور المعرفة والشخصية.
وكانت ألمانيا وما زالت تطبع الذهن العربي والإسلامي السياسي والشعبي منذ الحرب العالمية بالكثير من التعاطف والإيجابية، مع أن العرب احتلّوا، بوصفهم ساميين، مرتبة متدنيّة في التصنيف النازي.
وتكاد تنحصر صورة ألمانيا، إذاً، بين نازيتين مغرقتين في المغالاة: النازية الأولى قديمة تاريخية غالت في اضطهاد اليهود، وغالى اليهود بدورهم في إظهار اضطهادهم، والثانية حديثة لافتة تحاول تعديل الميزان، فتغالي في معاداة العرب وملاطفة اليهود، مسكونة بهواجس تنقية التاريخ الألماني ممّا علق به من الحقد اليهودي العريق، وما بينهما دولة محكومة بلا وعيها في عقدة النازية، كما هي محكومة في الوقت نفسه بعلوّ الصوت اليهودي في المجتمع الألماني الذي يخلق مساندةً سياسية أو صمتاً رسمياً في أحيانٍ كثيرة حيال تحويل الفكر والممارسات المشابهة للنازية إلى أرضٍ عربية تضطهد فيهما إسرائيل شعبها وتشتّته بدعوى حقّها في خلق دولة تقوم على العودة إلى لحظة تاريخية حذفت فيها قروناً تحوّلت في خلالها ديموغرافية فلسطين وجغرافيتها.
هناك مقولة «التماهي بالمعتدي» في علاقات الأفراد والشعوب، ومختصرها أن الأضعف يتماهى بشكلٍ غير واعٍ بالأقوى، فيعمد إلى تقليده في اللباس والسلوك والتفكير والأسلوب والشخصية، وخصوصاً تلك الملامح التي تبرز عناصر قوّته.
ووفقاً لهذه المقولة، يمكننا أن نتقفّى آثار خطى القوة بين ألمانيا ولبنان. فمن يتابع سلوك إسرائيل العسكري، وعشقها لمبدأ القوة، يبسط أمامه تاريخاً من النازية المزدوجة التي ذكرناها، والتي تماهى ويتماهى بها اليهود، ونقلوها في مؤسسات اتخذت تجلياتها في الكيبوتزات، حيث التطلّع إلى مجتمعاتٍ يهودية يسلخ فيها المولود عن أهله، فيصبح ابناً عسكرياً لدولة إسرائيل تقوم مقام والده ووالدته، وتؤمّن مستقبله، وتستعيد رفاته ولو بعد قرون في حال موته.
وبعد سقوط جدار برلين في أعقاب انهيار الكتلة الشرقية، ونهاية العداء البارد بين شرق أوروبا وغربها، تتحوّل مناخات العداء الغربي من شرق أوروبا إلى جنوبها بعد الوحدة الأوروبية، تحت عنوان الأورو ـــ متوسطية، حيث تبنّى حلف شمالي الأطلسي «مبادرة المتوسّط» مقابل «صدام الحضارات» الأميركية لصموئيل هنتينغتون. وهي مبادرة أظهرت دور ألمانيا كقوّة مؤثرة في أوروبا، لا تنصاع لأميركا، وقادرة على خلق توازن في الاتحاد الأوروبي في ما يختص بعلاقاته بدول الشرق الأوسط، وخصوصاً أنّ ألمانيا دولة لم تتّخذ أساساً صفة المستعمر في الشرق الأوسط، وأعلنت موقفاً حوارياً ومتعاوناً مع دول جنوب المتوسط كلّها من دون استثناء، بعدما كانت أميركا عبر بعض دول أوروبا، قد استثنت سوريا ولبنان وليبيا.
لكن لماذا ألمانيا؟
لأنها تبنّت نظرية الحوار، وخلقت جسور تفاهم بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي، كما بينها جميعاً ومع دول كثيرة عبر مجموعات كبرى من المؤتمرات والتوصيات التي أفصحت عن الاستراتيجية الحوارية الألمانية منذ عام 2000 لتوسيع الاتحاد الأوروبي، فكانت مؤتمرات مع كوسوفو وجنوب أوروبا وبولندا وإسرائيل، ثُمّ مع جنوب أوروبا وفرنسا وإسرائيل. ومنذ 2002، تركّز ألمانيا جهودها في المتوسط، فكان مؤتمر شباط / فبراير في القاهرة عن العلاقات العربية الألمانية، ثمّ مؤتمر تشرين الأول / أكتوبر من العام نفسه للحوار بين أوروبا والعالم الإسلامي، ثمّ مؤتمراتها الحوارية مع تركيا ودول الشرق الأوسط والصين في 2003، وكان همّها مستمرّاً في ترجيح السياسة الحوارية على القوة العسكرية.
ومهما اختلفت الآراء في العلاقات الأورو ـــ متوسطية بين أوروبا المراوغة سياسياً لاحتواء خطر المسلمين عند حدودها الجنوبية، وأوروبا المنخرطة مع جيرانها الجنوبيين كسوق غني يعزّز موقعها مقابل القوة الأميركية المرفوضة، لا سيّما أن أميركا قد أقصت ألمانيا وفرنسا عن المشاركة في إعادة إعمار العراق، بسبب امتناعهما عن المشاركة في غزو العراق، يبقى السؤال مفتوحاً: ماذا يريد العرب من أوروبا وبالعكس؟ وكيف نضاعف من السياسة الألمانية؟
* أستاذ جامعي