صباح أيوبطالبة الأدب الإنكليزي التي أرادت أن تصبح صحافية، توجّهت برفقة والدتها إلى معهد لتعليم فنّ التصوير في القاهرة، وهناك، دار حديث عفوي عن تعليم الباليه... وإذا بالصبيّة تتسجّل في إحدى المدارس المصريّة أيّام العصر الذهبي. هنا تعرّفت إلى ناديا جمال التي أصبحت صديقتها المقرّبة. ومع انتقال العائلة إلى لبنان، تسجّلت جبارة في مدرسة جديدة بتشجيع كبير من الأهل، بعدما وقفت العائلة ضدّ سفرها في منحة علميّة لتفوّقها في الدراسة. لكن الحلم تحقق أخيراً، وسافرت جورجيت إلى يوغوسلافيا (1961) حيث تابعت دراسة الباليه، وعاشت «أجمل فترات» حياتها.
وفاة الوالد أجبرت الابنة البكر على العودة إلى لبنان قبل الأوان. كادت جورجيت أن تتخلى عن مسيرتها الفنّية لإعالة العائلة، لولا تدخّل أساتذتها وإقناعها بالعودة «إنقاذاً لموهبتها الفذّة». وإلى جانب عملها في وظيفة يوميّة، تابعت دراسة الرقص، إلى أن عرض عليها تعليم الباليه في مدرسة صغيرة. بعد نجاحها أيقنت أن ما تريده في الحياة هو امتهان الرقص، وتأسيس مدرستها الخاصة لتعليم الباليه وتخريج أجيال من المحترفين.
تروي لنا جورجيت: «في لبنان الستّينيات، كانت صعوبة مهمتي مزدوجة.
فمشروع إنشاء مدرسة للرقص تديرها امرأة لم يكن بالأمر السهل»، مع العقلية الشرقية السائـــــــدة، والصورة السيّئة المسبقة عن مدارس الرقص في المجتمع اللبناني. «واجهتُ ولا أزال صعوبات عند الأهل بتقبّل فكرة الرقص، وخصوصاً في ما يتعلق بإرسال أولادهم للتعلّم بمنحة في الخارج»، لكنّ جبارة معروفة بعنادها ومثابرتها.
وقد أنشأت عام 1964 أول مدرسة باليه في بيروت، بمرسوم جمهوري موقّع من الرئيسين شارل حلو ورشيد كرامي. هنا، في الحمراء، كانت هذه المدرسة أوّل من خرّجت طلاب باليه بشهادات رسميــــــة، ومكّنت بعضهم من متابعة دراساتهم فــــي الخارج.
حماسة جورجيت تبدو جلية في نبرة صوتها وتعابير وجهها حين تنتقل للحديث عن مدرستها الحالية في ذوق مصبح Ecole Libanaise de Ballet التي رافقتها خطوةً خطوة منذ «مرحلة الباطون»!
واجهت مصاعب الحرب والقصف في الثمانينيات، لكنها خلعت تنّورة الباليرينا البيضاء ونزلت بنفسها تتابع ورشة البناء: «انسوا أني جورجيت... أنا جورج هنا!». هكذا تكلّمت جبارة مع معلّمي الورشة وعمّالها. وحالت الحرب دون افتتاح رسمي للمدرسة، لكنها لم تقفل أبوابها حتّى في أصعب الظروف، وكانت جبارة في بعض الأحيان تكنّس الزجاج المتساقط من جرّاء القصف قبل أن تبدأ صفوف الرقص، وهي لا تزال اليوم تستقبل الطلاب، وترعاهم كـ«أولادها» الذين لم ترزق إياهم لأنها لم تتزوج أصلاً.
حياة الباليرينا كانت صاخبة، جولات حول العالم مع فرق أجنبية ومع أبرز مبدعي المسرح اللبناني الحديث من أمثال منير أبو دبس، شكيب خوري، ريمون جبارة... حازت جوائز عالمية، وشاركت في عدد لا يحصى من المهرجانات والحفلات محلياً وعالمياً... وبقيت أستاذة الرقص في «معهد الفنون الجميلة» التابع للجامعة اللبنانيّة، لمدة 18 عاماً.
بقيت تلك الطالبة والراقصة والمحترفة التي اعتادت تأدية أدوار البطولة منذ رقصاتها الأولى: «كسّارة البندق»، «هاملت»، «ساندريللا»، «في انتظار غودو»، «جمهورية الحيوانات»
وPeleas et Melisande وهي اللوحة الأحبّ على قلبها «لشدّة رومنسيتها» كما توضح.
وجورجيت جبارة هي أيضاً أوّل مَن رقص على قصائد لكبار الشعراء العرب، هكذا من دون موسيقى، في حلقات سجّلت في استوديوات تلفزيون لبنان بصوت الراحلة ناهدة فضل الدجاني، ومن إخراج سيمون أسمر. لكن تلك الحلقات (نحن في زمن ما قبل الفضائيّات) بثت في معظم البلاد العربية... إلا في لبنان! وبعد سنوات، عرض بعض تلك الحلقات على شاشة «تلفزيون لبنان»... بعد وفاة الدجاني.
اليوم تقول جورجيت من دون مرارة: «واجهتُ صعوبات وحوربت كثيراً في مشواري الفنّي، لكني آمنت بعملي والتزمتُ المعايير المهنية، فأكملتُ الدرب».
والصعوبات الشخصية والتقنية التي يمكن أن تواجهها امرأة مثل جورجيت جبارة خلال السنوات التأسيسيّة التي تتحدّث عنها اليوم بحنين، لا يمكن أن تنسى. كانت تقدّم لوحاتها الراقصة على التلفزيون في زمن البثّ المباشر، وقد استخدمت مدّخراتها الشخصية لتقديم مشاريعها، في غياب شركات الإنتاج وشبكات التوزيع التي لا يمكن أيّ حركة فنيّة أن تعيش وتزدهر من دونها.
لكن الباليرينا التي تعرف تماماً أسرار فنّها، وحدود إمكاناتها، توقّفت عن الرقص عام 1988. احترمت قدرات جسدها وتعبه، وابتعدت عن الأضواء، «لتبقى صورتي جميلة في أذهان مَن أحبَّ فنّي». واذا قدّر لها اليوم أن تعود بالزمن إلى الوراء، وتختار لوحة واحدة كي تؤديها، ما عساها تكون؟ تفكّر مليّاً، ثم تقول: أفكّر الآن في مشهد صمّمته من مسرحية «روميو وجولييت». ما زالت جورجيت جبارة تحلم ــــ كما في بداياتها ــــ بأن ترقص جولييت!


5 تواريخ

في الأربعينيات
الولادة في القدس
1952
اعتلت لأول مرّة خشبة المسرح في القاهرة لترقص كطالبة
1956
الاستقرار في لبنان
1961
مواصلة الدراسة في يوغوسلافيا،
وبعد ثلاث سنوات عادت لتؤسس أول مدرسة باليه في لبنان، بمرسوم جمهوري موقّع من الرئيسين شارل حلو
ورشيد كرامي
1988
اعتزلت الرقص وواصلت التدريس وتصميم الأعمال الفنيّة