حافل موسم الصيف بكلّ ما فيه، حتّى في الموت. لا تكاد تنقضي أشهره الأربعة، من دون أن نشهد موت الكثيرين من روّاد البحر والنهر. ففي إحصاءٍ أخيرٍ أجرته الجمعيّة اللبنانيّة للوقاية من الإصابات الرياضيّة «لاسيب»، وصلت نسبة المتوفَّين غرقاً في البحر العام الماضي إلى 150 قتيلاً في 120 يوماً، ويتوقع أن تكون أكثر هذا العام
راجانا حمية

موتان في يومٍ واحد. سراج حسّون (6 أعوام) ومحمّد سلهب (17 عاماً) «انتهيا» في الوقت نفسه في حفلة موتٍ مجّاني، عند ضفاف نهر الليطاني في الجنوب، بينما كانا يمارسان طقسهما المعتاد في أيّام الصيف الحارقة. «خبر» هذين الشابين اللذين قضيا معاً، لن يكون نهائياً في حفلة الموت التي تبدأ في شهر أيّار من كلّ عام وتنتهي في أيلول مع اختتام الموسم الصيفي رسميّاً، حيث يبيّن إحصاء أجرته الجمعيّة اللبنانيّة للوقاية من الإصابات الرياضيّة «لاسيب»، عن الحوادث البحريّة لعام 2007، أنّ عدد القتلى يفوق عدد أيّام الأشهر الأربعة بثلاثين قتيلاً!
وهذا الرقم صعب، بالمقارنة مع إحصاءات صيف عام 2006، حيث لم يتعدّ الرقم 38 (ربما بسبب العدوان الاسرائيلي)... وقد يصبح «أصعب»، وفقاً لتوقّعات رئيس الجمعيّة ومدرّب الغطس زياد الحلبي مستنداً إلى «كمّ أخبار الغرق» لهذا العام، وتطال «الزيادة الكبرى» في مرتبةٍ أولى حوادث «الشكّ»، التي وصلت العام الماضي إلى ما نسبته 22% من أصل 60% من حوادث الغرق في البحر، ومن ثمّ حوادث التيّارات البحريّة.
تزداد الحوادث، وبعض روّاد البحر لا يأبهون، في ظلّها، لموتهم. عند كورنيش البحر في منطقة عين المريسة، تبدأ الحكاية.
على خط الكورنيش، تتوزّع «شِلل» من الشباب، لا يتعدّى عمر أكبرهم العشرين، عند بضعة نقاطٍ باتت معروفة في «مهنة الشكّ»: نقطة عمود الجامعة الأميركيّة، منطقة الجسر، الكورنيش الجديد. «شِلل» يجمعها الفقر والملل، وصداقة طارئة ومياه بحرٍ يستجدونها هرباً من ثقل ساعات الدراسة والعمل.
هرب يبدأ مع أوّل «شكّةٍ» يقوم بها من سيترأس المجموعة في وقتها اللاحق. هذه المرّة، كانت من نصيب يوسف، «آمر كتيبة الشكّاكين» عند نقطة الجسر، التي تكاد تختنق بفقرها وأوساخها. خلع قميصه الأبيض وصعد حافّة السور، متهيّئأً لشكّةٍ «ما بعدها شكّة». أغمض عينيه، وهوى كالطائر، مختفياً في المياه القاتمة الزرقة وسط العيون الجاحظة للواقفين عند جنبات السور والمارّة الذين جذبتهم «خبطة» يوسف بصفحة المياه. غاب لحظات قبل أن يعود إلى شكّته الثانية، والشباب لمّا يتحمّسوا بعد، أو بالأحرى لمّا يجرؤوا بعد على المغامرة التي لم تعد كذلك له، بعد أربع سنواتٍ من التجربة.
في عودته الثانية، ثمّة ما تغيّر في وجهه الطفولي. خيط من الدم ينساب على خدّه الأيمن، المحمرّ أصلاً من قوّة الارتطام، ونَفَس يكاد يتقطّع من شدّة اللهاث ويدان تعبتان من تجاويف الصخور التي استعان بها للصعود إلى الحافّة. كلّ ذلك «لا يهمّ»، فقد سبق له أن شجّ رأسه «هناك»، وهو يدلّ بيده إلى الصخرة في الأسفل، التي لا تبعد عن مكان قفزته سوى بضعة أمتار، واعتاد معها «مداعبة» الموت مع كلّ «شكّة». لذلك تراه لا يأبه لخيط الدم ولا للوشم الذي رسمه الجرح في رأسه قبل سنوات، يتحدّى الموت في كلّ مرّة يقفز فيها من على السلك الشائك، الذي وضعته وزارة الداخليّة والبلديّات، على أساس أنّه «اللي مكتوب له الموت بيموت، وأنا لهلق بعدني!».
«شكّتان»، وينتهي يوسف من الجولة الأولى، فاسحاً المجال أمام الشباب الذين تجمهروا في المكان، بانتظار دورهم تحت إمرته. بعض هؤلاء دفعته الحماسة لاختبار المرّة الأولى في «الطيران».
مصباح، الشاب الذي مرّ صدفة في ذلك المكان، لم يستطع ضبط رغبته بالقفز عن هذه الأمتار. خلع ما استطاع من الثياب ووقف على الشريط الحديدي، وبقي واقفاً، لا يمكنه التراجع، وسط صراخ المشجّعين من «تحت»: «يلّلا يا مصباح، كلا هالمرّة وبتكسر الحاجز». قفز مصباح، ولكنّ النتيجة لم تكن كما يرغب «المعلّم» يوسف، «لأن كان لازم يقرّب قدميه إلى بعضهما البعض»، إذاً مصباح «للكبّ»، وكلّ ما في الأمر «شكّة خاطئة».
يعاود يوسف نشاطه. وهذه المرّة لتدريب «أمثال مصباح». يقف على الحافّة ويصرخ بوجه أحدهم: «تعلّم يا ...»، ويقف خلفه على الشريط التالي شقيقه مصطفى. يعلو الصراخ من الجهتين اليمنى واليسرى للشقيقين «يلّا ألف إذا بتنطّوا صح». قفزا، وعلا الصراخ مجدّداً: «حلوة منكن، بتعلموا ميّة منّا».
مرّت ساعات الأحد الثلاثة على ما يرام. وعادت الشلّة إلى حياتها. ولكن ثمّة آحاد أخرى لا تنتهي عادة إلّا بموتٍ عابرٍ لأحدهم. وبعيداً عن كون هذا الموت مقصوداً أو بالصدفة، إلّا أنّ معدّلات المتوفّين غرقاً ترتفع بشكلٍ ملحوظ. ففي خلال ثلاثة أسابيع، انتشلت وحدات الدفاع المدني نحو تسعة قتلى، بينهم أربعة أطفال. وفي هذا الإطار، يذكر الحلبي أنّ أكثر حوادث الموت هي حوادث الأطفال، مستنداً إلى تقرير منظّمة الصحّة العالميّة عن تلك الحوادث، حيث تبيّن الإحصاءات أنّ الحادث البحري هو المسبّب الثاني لوفاة الأطفال... فيما هو السبب الأوّل لدى المراهقين. ولعلّ السبب الأساس لهذا الموت، يكمن، بحسب الحلبي، في البيئة التي يمارس فيها روّاد البحر هواياتهم، حيث تفتقر إلى أبسط معايير السلامة، وتفتقر إلى القانون الذي لم يبادر إلى الآن في اتّخاذ إجراءاتٍ وقائيّة، أقلّها تخصيص منصّة للشكّ في الأماكن التي يقصدها الروّاد للشكّ.
كما يورد الحلبي نوعاً آخر من الموت. وهذه المرّة مع المنقذين، حيث إنّ أكثر من 70% من حوادث الإنقاذ، تكون نهايتها غرق المنقذ. هنا، في هذا الموت، تنقلب المعادلة، يأخذ «الغريق موضع القتال، من دون قصد، مستحوذاً على الدقائق التي يستهلكها المنقذ تحت الماء في عمليّته، ويصبح الأخير الضحيّة».