خضر حسانلم يكن خبراً عادياً يمرّ عبر الإذاعة والجريدة ومحطات التلفزة، بل كان كصرخة فلسطين يوم اغتصابها، وكأيام النكسة والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وكرائحة الموت والبارود في صبرا وشاتيلا وتل الزعتر وقانا... كان كالحيرة والضياع لحظة اغتيال الكثير من المفكرين والقادة والفنانين التقدميين، حاملي لواء التغيير والتصدي لمشاريع التقسيم الفئوية والطائفية والمذهبية والمناطقية.
في لحظة الذهول من صعوبة الخبر، كنت أحاول الهروب من الواقع الصعب، أحاول الهروب حتى من التزام القضية خوفاً من الموت، من سماع الأغنية وصوت البندقية.
أحاول ترك أحمد العربي وحيداً، والحصان وحيداً، أحاول أن أنسى الذكريات وشوارع التظاهرات، لكن أوراق الزيتون تصفعني، والحنين إلى خبز أمي يكويني، ومذياع المنفى حين يصرخ: عائدون للبحر وللعرق ولليمون، يبكيني، فأتذكر ما تعلمته من أحمد العربي، من ريتا وبندقيتها الرائعة، من جفرا والذكريات والأعراس والفراشات، أتذكر كيف أحب الحياة لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
محمود درويش لم ألقك يوماً ولم أحدّثك يوماً، ولكنني عرفتك منذ أن كنت طفلاً صغيراً يردّد أغاني مارسيل خليفة، ولاحقاً، عرفت أبعاد هذه الكلمات التي تلفّ بحروفها قضايا الإنسان والثورة والوطن، وتعانق الآلام اليومية للتشرّد والنفي والاعتقال.
لأنني عرفتك عرفت الازدواجية بين الجرح والحجر، وبين القلم والرصاص، فلم أبكِ سوى دمعتين ووردة، ولم أنزوِ في ثياب الحداد، بل ارتديت ثياباً حمراء وقطعت عهداً بأن أحرس أحلامك من هواة الرثاء، وأقول لك ولكل الشهداء: «تصبحون على وطن من سحاب ومن شجر، من سراب وماء»....
نعم، لك ولكل الشهداء لأنك شهيد أيضاً، فمن تحفر الأغلال في جلده شكلاً للوطن، وتعلّمه السلاسل أن يقاتل، لا بدّ أن يكون شهيداً في حياته وفي مماته، وإن تناساه البعض ممّن آثر نسيان الجراح والقضايا، فليس بغريب أيها الشهيد أن لا يعرفك البعض في الظلال التي تمتصّ لونك في جواز السفر، ولا أن يجعلوا جرحك معرضاً لسائح يعشق جمع الصور، فأنت من ابتعد عن مدحهم أو رثائهم، وبالتالي عن اعتباراتهم ومصالحهم الضيقة السوداء، لتحمل بيرق الثورة فوق كل التلال والمنابر، ولتوجّه البوصلة نحو الاتجاه الواحد، نحو فلسطين، بما تحمله من معاني النضال والتضامن مع الثورات في كل العالم، فكانت فلسطين مثل الجزائر، مثل كوبا، مثل فيتنام.
محمود درويش، أسقطت معك جواز السفر، وأعلنت انتمائي للأرض وللإنسان، وأقول لك إنّ أحمد العربي ما زال يعانق المدى، ويشهر صدره للشمس مع اشتداد الحصار والاحتضار الطويل، وإنّ ريتا ستحمل بندقيتها دائماً رغم صعوبة المرحلة. وأنت لن تموت لأن كل شيء سيستمر، والأهم أن قتل الموت بالموت مستمر رغم الموت.