دينا حشمت
ذهبتُ إلى دارهما محمّلةً بقصص سمعتها عن نضالهما أثناء الثورة الجزائرية. كيف سرّبت كلودين بيانَ مؤتمر جبهة التحرير المنعقد سنة 1956 في حفاضات طفلها الرضيع، كيف هرّبت عبّان رمضان، أحد قادة الجبهة، من العاصمة المحاصرة من جانب القوات الخاصة الفرنسية سنة 1957 في اليوم نفسه لاعتقال زوجها بيار بسبب علاقته المعروفة بما كان يسميه الفرنسيون آنذاك «الأوساط الجزائرية».
تستقبلني كلودين في منزلهما في حيدرة، أحد أحياء الجزائر الراقية؛ الشيش الأبيض مغلق والصالون غارق في عتمة تعطي إحساساً بالطراوة، في هذا اليوم الحار من أواخر تموز (يوليو). بالكاد يكفي الضوء لأتعرّف إلى لوحة للرسّامة الجزائرية باية ولأتبيّن معالم الثانية، لمحمد إيسياخم، كما يشرح لي بيار شولي، معتذراً عن إرهاقه الشديد. إذ قضى الليلة الأخيرة في كتابة الجزء الخاص بالصحة لتقرير عن التنمية البشرية، قُدّم في ندوة المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي CNES.
بيار شولي بين قلّة من «الأقدام السوداء» ــــ كما سمّي الفرنسيّون الذين أقاموا في الجزائر تحت الاستعمار ــــ الذين اختاروا صفّ جبهة التحرير من دون تردّد، لحظة اندلاع الثورة في أوّل تشرين الثاني (نوفمبر) 1954. لم يتّخذ موقفاً «إنسانياً» على غرار ألبير كامو الذي دافع عن وقف إطلاق النار، فعدّه بيار شولي من أعدائه «الليبراليين». «كنت أدافع عن ضرورة حمل السلاح. كان ذلك أمراً طبيعياً لي». آمن بيار بحتمية استقلال الجزائر على يد مسؤولي حركات الشباب الجزائريين الذين كان يقابلهم كمسؤول في حركة الشباب المسيحي. شرحوا له معنى مذبحة سطيف وقالمة في أيار (مايو) 1945، حيث قُتل آلاف المتظاهرين المطالبين بالاستقلال. شرحوا له أسباب البؤس الذي اكتشفه أول مرة حين تطوّع كطبيب في عشوائيات العاصمة. شرحوا له أبعاد «القضية الوطنية»، تلك التي لم يكن ليعيَها في أسرة كاثوليكية اكتفت بمكافحة البؤس الاجتماعي. الأب، ألكسندر شولي مؤسّس «نقابة العمّال المسيحيين»، والأم مناضلة في فرع موظفي البنوك للنقابة نفسها. أما الأخت، فساندت ــــ مثل بيار ــــ مطلب الاستقلال منذ البداية، وتزوّجت صالح لوانشي، أحد قادة جبهة التحرير في الخارج. لم يكن كل هذا مألوفاً في أسرة أوروبية من «الأقدام السوداء»، عاشت في الجزائر المستعمَرة أباً عن جد.
أما كلودين، فكان والداها موظّفين ليبراليّين وافدين من فرنسا، ولم تمثّل لهما «قضية الجزائر الفرنسية»، مسألة حياة أو موت. رأيا أنّ «الأقدام السوداء» «يمنعون تطوّر الجزائر وحصولها على المساواة»، وكانا مقتنعين بأنّ «أجمل هدية يمكن فرنسا أن تعطيها للجزائر هي الاستقلال»... هذا الموقف تصفه كلودين بـ «الأبوي». كانت كلودين جيويو آنذاك من المقرّبين لأندريه مندوز، رئيس «الحركة من أجل السلام»، لكنّها ترفض أن تستطرد في الحديث عن إنجازاتها الشخصية، فيكمل بيار الحديث بدلاً منها. يحكي كيف انتخبت ممثّلة عن الجمعية الطلابية، بأصوات الطلاب غير الأوروبيين الذين أعجبوا بأفكارها «المندوزية»، فيما عدّها فرنسيّو الجزائر وصمة عار.
عندما تقابل بيار وكلودين عام 1954، كانت هناك أرضيّة مشتركة إذاً، جعلت من حبهما حكاية مصيرية. تزوّجا بعد عام، وشرعا معاً في أنشطة لدعم جبهة التحرير: من بحث عن مخابئ آمنة للمناضلين وعلاج للمقاتلين. في البداية، لم يصدّق بعض قادة الجبهة التزامهما، فرغم اندماجهما الطويل في حركة التحرّر الوطني (في عام 1953 كاد بيار أن يلتحق بحزب الشعب الجزائري المطالب بالاستقلال)، فهما ليسا «جزائريين بالوراثة» حسب التعبير الذي ابتكره بيار.
حصل بيار وكلودين على الجنسية الجزائرية غداة الاستقلال. «ظهر اسمانا في أول بيان رسمي»، تحكي كلودين، بعدما شرح بيار كيف طلبا مقابلة الرئيس أحمد بن بلة في 1963، وكتبا رسالة «للمطالبة بالاعتراف بجنسيتهما، لا منحهما إياها»، كما توضح كلودين، مضيفة أنّهما عدّا نفسيهما جزائريين منذ قرارهما الاشتراك في حرب التحرير. ما زال بيار ينزعج ممن يصفه بـ «صديق الثورة»: «لسنا أصدقاء الثورة. نحن عشنا الثورة من الداخل».
عاش الثورة من الداخل، وسنوات ما بعد الثورة أيضاً. ورغم قراره ترك عمله كمحرّر في صحيفة «المجاهد»، لسان حال جبهة التحرير، بعد الاستقلال، بقي بيار شولي عضواً في خلية جبهة التحرير في حيدرة، وانتخب في مجلس بلديتها، كما انتخبت كلودين في مجلس الولاية. «كنّا مندمجين تماماً في نظام «الحزب الواحد» لجبهة التحرير»، يقول بيار ساخراً من الفرنسيين «الذين يحبّون نظام الحزب الواحد عندما يتوافق مع مصالحهم، أما جبهة التحرير فينتقدونها».
بعد الاستقلال، لم يكتفِ الثنائي ببطولات الثورة ونشوة الانتصار. في تونس، عمل بيار طبيباً لدى وزارة الصحة، ومحرراً في «المجاهد» مع فرانز فانون الذي قدّمه إلى قادة جبهة التحرير سنة 1955، فيما ساعدت كلودين على تنظيم عودة اللاجئين. ثم عادا إلى الجزائر ليسهم بيار في تسيير عمل مستشفيات كانت الإدارة الفرنسية تراهن على انهيارها. بينما بدأت كلودين عملها في السوسيولوجيا الريفية. درست «حركات التسيير الذاتي» التي شهدتها فترة ما بعد الاستقلال، ثم درّستها لطلابها في جامعة الجزائر باللغتين الفرنسية والعربية. ومع أنّها لا تُجيد التحدّث بالعامية الجزائرية، قرّرت كلودين تعلّم العربية الفصحى بدءاً من 1964، «بدافع الإيمان الشخصي»، على يد قسّ سوري، «رجل عظيم، الأب موسالي»، فأسهمت مثل «كل الأساتذة الآخرين» في تعريب الدراسات العليا. وهي اليوم لا ترى أنّ تلك التجربة قد فشلت: «كان واضحاً لي أنّه لا بد من الانتقال إلى التدريس بالعربية».
لم يتّخذ زوجها مثل هذه القرارات الصارمة فهو لا يجيد العربية، بسبب انشغاله بعمله كطبيب متخصّص في الأمراض الصدرية، وبعثاته ضمن برنامج منظمة الصحة العالمية لمكافحة السل، بعدما أسهم في استئصال هذا المرض في الجزائر. كما شُغل بيار بنشاطاته السياسية، فعمل مستشاراً لرئيسي الحكومة رضا مالك وبلعيد عبد السلام في بداية التسعينيات. «يُعدّان استئصالين (أي من المعارضين للتفاوض مع الحركة الإسلامية)، لكني لا أخجل من ذلك»، يقول بيار شولي بنبرة من يتوقّع ردّ فعل معارضاً لدى محدّثه. كان بيار مدرجاً على قائمة الشخصيات المستهدفة من «الجناح الراديكالي داخل جبهة الإنقاذ»، فترك البلاد في 1994، لمدة 4 سنوات.
بيار مشاكس، لكنّه يحب الناس. يحب أن يستفزّ محدّثه ويزعزع قناعاته الراسخة. ما يحبّه بالذات هو رصد ردّ فعل مَن لا يتوقّع أن يقدّم نفسه على أنّه جزائري. ما زال يضحك عندما يتذكّر «مؤتمر المسيحيين العالمي من أجل فلسطين» في بيروت، آذار (مارس) 1970. «استغرب اللبنانيون هذا الوفد الجزائري الذي كنت أنا المسؤول عنه والمتحدّث باسمه».
لدى مغادرتي منزل آل شولي، شعرتُ بأننا أصبحنا أصدقاء. شاهدت رسوم حفيدهما يحيى، وأعطاني بيار نسخاً قديمة من جريدة «المجاهد»... فيما شرحت لي كلودين أهميّة ذلك «العدد التاريخي» المنشور في نيسان (أبريل) 1961: «وحدة الشعب ووحدة التراب الوطني». أخرج ساهمةً، وأنا أفكّر في فترة تاريخية لم تستجب تماماً إلى تلك الآمال التي نذر لها بيار وكلودين نفسيهما، يوم ربطا مصيرهما نهائيّاً بمصير الجزائر.


5 تواريخ

1955
زواج بيار وكلودين شولي
1954 ـ 1962
مشاركة في الثورة الجزائرية
1963
الحصول على الجنسية الجزائرية
1971
صدور كتاب «التسيير الذاتي في سهل المتيجة» لكلودين شولي
1994
بيار شولي طبيب في منظمة الصحة العالمية في جنيف