هو جابي كهرباء، اختار لنفسه اسم سامي ليحكي يومياته في مهنة علّمته معنى الانتماء إلى «طبقة» المواطنين «المحقّين دائماً» بنظره. فبعد ما رآه ولمسه من تمييز، صار مقتنعاً بأن في البلد من لا يجد ضرراً في احتراق الوطن لمصلحته هو. الكهرباء نموذجاً
مهى زراقط
وصل جابي الكهرباء إلى الحيّ. الروزنامة في المطبخ تشير إلى أنه اليوم العشرون من الشهر.
يطرق الباب، يأتي الصوت من الداخل «من الطارق؟»
«أنا جابي الكهرباء، والفاتورة 18 ألفاً».
تفتح السيدة الباب فيما يأتي صوت رجل غاضب: قولي لابن الـ... يروح يقبض من تحت، جايي لعنّا؟
قبل أن يتلفّظ الجابي بأي كلمة، يكون الرجل قد وصل إلى الباب وبدأ بكيل الشتائم إلى سكان الحي التحتاني، والجابي مفترض أنه ينتمي إلى طائفتهم نفسها، وكلّهم لا يدفعون الكهرباء: «شاطرين علينا؟».
يغضب الجابي، فيشتم طائفة الرجل، التي هي طائفته أيضاً: «شتمتُه بطريقة أعلنت فيها انتمائي الديني وكلّ هدفي تحقير منطقه بعد أن تصوّرت ماذا كان سيحصل مع زميل آخر لي إذا كان من طائفة أخرى».
كان يمكن سامي أن يتقبّل غضب ذلك المواطن لو أنه عبّر عنه بطريقة مختلفة. «أفهم أننا كنا في نهاية الشهر، وقد يكون متضايقاً ولا يملك المال». فهذه هي الحال في معظم الأحياء الشعبية حيث «تاريخ الشهر مسبّب للشتيمة، كذلك الوصول صباحاً. الناس متضايقون وصرنا كأننا شؤم على الناس».
رغم ذلك يبقى الوضع أفضل من تحصيل فاتورة من إحدى المؤسسات الكبيرة: شركة، جامعة، مدرسة: «نتعذّب عند المسؤول المالي أكثر مما نتعذّب عند امرأة لا تملك ثمن ربطة الخبز. بياخذنا وبيجيبنا أكثر».
ويشرح أنه يفترض بجابي الكهرباء أن يذهب إلى مكان الجباية مرتين. «لكننا نذهب أحياناً ثلاث مرات، بعدها يصبح على المواطن أن يذهب إلى شركة الكهرباء بنفسه ليسدّد الفاتورة». لكن في حال الشركات الكبيرة أو أصحاب النفوذ «لا يمكننا الانتفاض على كثرة الزيارات، لأنهم أقاموا علاقات جانبية مع شركة الكهرباء وتجاهلونا». ويقدّم مثالاً «مطار بيروت يمكن يبقى شهر ما يدفع، ما يؤخر تسليم الجباة للإصدار الذي يجب تسليمه ضمن 24 يوماً».
الفارق بين تأخّر المؤسسات في الدفع وتأخّر المواطنين هو أن «الكهرباء تُقطع عن بيت المواطن المتخلّف عن الدفع ولا تغيب عن المؤسسات الكبيرة وبعض البيوت». وهذا ما يجعله يؤكد أن «المواطن العادي يدفع، بل هو من يبادر إلى الاتصال بنا ليدفع إذا تأخرنا»، لافتاً إلى أن المواطنين هم غالباً من يتصلون به ليتفقوا على طريقة دفع الفاتورة، «وخصوصاً أنهم يكونون في أعمالهم عندما أمرّ، لذلك يتركون لي المبلغ أحياناً في دكان الحي أو يتركون لي ورقة عند الباب تحدد مواعيد وجودهم في المنزل». ورغم أن شركة الكهرباء تمنع عمل الموظفين خارج الدوام الرسمي، «لكنني غالباً ما أحصّل الفواتير في تلك الأوقات».
هذا الواقع دفع سامي إلى التعرّف إلى الطبقية، بعيداً عن نظرياتها الفكرية. ويبدأ التمييز من المناطق التي يقسّمها إلى فقيرة «نتعاطى فيها مع الناس شخصياً»، وغنية «حيث نجبي من بيوت لا علاقة فيها بيننا وبين من نحصّل منه المال، بل مع ناطور المبنى أو خادمة المنزل الأجنبية».
التمييز لا يقتصر على الوضع المادي للأسرة، بل «الواسطة» التي يحظى بها البعض في الشركة. مثال: «مرة أعطاني أحدهم شيكاً لمصلحة المؤسسة كتب عليه اسم المستفيد بشكل خاطئ، فطُلب مني أن أعود لتصحيحه. عندما عدت وجدت صعوبة في التفاهم مع الخادمة الأجنبية، رغم أن الرجل كان موجوداً في المنزل، واضطررت إلى انتظاره ساعتين لكي يستيقظ ويغيّر الكلمة وهو مش ممنون، علماً إنو هوّي عامل غلطة أد راسو».
ورغم أن عمل الجابي في المناطق الميسورة يأتي بمردود أفضل للجابي، يضاف إلى راتبه، إلا أن سامي يفضّل العمل في المناطق الشعبية حيث «الحال واحدة» رغم المشاكل اليومية التي تنشب بين الجابي والمواطن.
قراءة خاطئة للعدّاد هي السبب الرئيسي لنشوب معظم المشاكل مع المواطنين الذين يفترضون نيّة سيّئة من جانب الجابي. «لا مصلحة لنا في أن نخطئ قراءة العدّاد، إذ يحسم له 15 ألف ليرة». لكن المواطن لا يفهم ذلك، بل يتحامل علينا، «علماً بأننا مستعدون لتصحيح الخطأ ما إن يلفت نظرنا».
هذه القراءة تزداد صعوبة مع سوء وضع غرف الكهرباء «التي لا يمكن الدخول إليها بسبب الأسلاك المقطعة. نشتكي منها كثيراً، لكن لا تجاوب من الشركة ولا من المواطنين».
ورغم أن سامي من الذين يرون أن المواطن دائماً على حق، ما دام يرى بأمّ العين التمييز الفاضح من جانب مؤسسات الدولة، إلا أنه يتمنى على المواطنين أن يستوعبوا الجباة «فلا يحملوننا نحن مسؤولية انقطاع الكهرباء عنهم». ويتساءل عن سبب عدم وجود عمليات تثقيف للمواطنين في شأن آلية الجباية والطريقة التي يحصّل فيها المال، لافتاً إلى أن ما يقوله كانت قد اقترحته عليه سيدة «قالت لي لماذا لا توزّعون لنا كرّاسات عن طريقة عملكم، عن الأدوات التي تصرف الكهرباء»، مشيراً إلى أن «الشركة رمتنا في الشوراع، وبات كلّ واحد مسؤول عن نفسه».
لكن سامي يعرف أن عبارة «الرمي في الشارع» غير دقيقة تماماً. إذ إن العمل في جباية الكهرباء لا يتاح لكلّ من يرغب فيه، رغم أن راتبه الشهري بقيمة الحدّ الأدنى للأجور، إضافة إلى نسبة 1% على المبلغ المحصّل. ورغم ذلك على الراغب في الجباية أن يودع 12 مليون ليرة في المصرف للحصول على حق تحصيل فواتير الكهرباء، وذلك على سبيل الكفالة، يضاف إليها 200 إلى 300 دولار يأخذها المصرف عمولة سنوياً. لا ينتسب الجباة إلى الضمان، كما لا تلحظ الشركة مصاريف البنزين، «علماً بأن تنكة البنزين كانت بـ12 ألف ليرة عندما وقّعنا العقد».
لم «يغامر» سامي بالعمل جابياً قبل أن يجرّب قراءة العدّادات وفق العقد السابق مع الشركة الفرنسية الذي كان يفرّق بين متعهد قراءة عدّاد ومتعهد جباية، وبعد عام ونصف من عمله، أُلغِيَ هذا العقد، فانتقل إلى الجباية.
وهنا يلفت سامي إلى اختلاف الأمكنة التي يعمل فيها الجباة. «في مناطق معينة قد تكون قيمة فاتورة واحدة 20 مليون ليرة، فيما قد نجول حيّاً بكامله ولا نخرج بـ3 ملايين لنحو 100 أو 150 فاتورة».
المناطق الأولى لا يحظى بها «جباة الإكراء»، أي غير الموظفين في الشركة. لكنّ هناك عرفاً في الشركة بأن توزّع بقية المناطق على الجباة بالتساوي، «بحيث تكون النسبة التي ستحصّل من مجمل الفواتير متساوية». كما يفرض العقد على كلّ جابٍ تحصيل قيمة 800 عدّاد في المناطق الجردية و1200 في المدينة. «هناك مناطق نائية يتكلّف فيها الجابي على 100 عدّاد ما يتكلّفه الجابي في بيروت كلّ الشهر». يضاف إلى كلّ ما سبق «الاستنسابات في دفع الرواتب الذي يجري من خلال صرف اعتمادات تدفعها الدولة عن طريق وزارة المال».
لكن كلّ هذا يهون أمام قلة الاحترام التي يقابل بها في بعض المناطق، «حيث أكون مجبراً على تقديم تقرير عن نفسي أكثر من مرة. يفترض أن تكون البطاقة التي بحوزتي كافية لأمارس عملي بحرية، لكن في بعض الأماكن غالباً ما أعود أدراجي أو أجري اتصالات قبل التوجه إليها».


بيوت يُمنع الدخول إليها

عندما بدأ سامي عمله، كان يسمع بأن هناك مناطق لا يدفع سكانها فواتير الكهرباء. يعترف بأنه لم يعمل في تلك المناطق لكي ينصفها أو يؤكد التهمة عليها، لكنه يؤكد في المقابل أن «هناك الكثير من المناطق التي لم يكن يسمح لنا فيها حتى بقراءة العدّاد، وهي لشخصيات سياسية». هذا المنع لا يرتبط بالوضع الأمني وحرص السياسيين على حياتهم، لأنه يعود سنوات كثيرة إلى الوراء، منع خلالها من دخول بيوت زعماء في منطقة المتن.
في حالات مماثلة، كان سامي يسجّل مبلغ «صفر» على الفاتورة، ما يدفعه إلى التساؤل عن دور شركة الكهرباء. «ألا يتساءل المعنيون عن سبب عدم صرف هذا الشخص للكهرباء؟». يذهب سامي أبعد من ذلك: «أنا أقبل أن تحاسبني الشركة على سبب عدم قراءتي العدّاد؟ لكن لا أحد سألني يوماً، لماذا؟». لا يقتصر الأمر على السياسيين، بل هناك مؤسسات كبرى «يسجّل عدادها مصروفاً أقلّ من مصروف بيت. ليس عملي أن أكون مفتّشاً أو مدقّقاً، لكن يجب أن يكون هناك جهاز في الشركة يطرح، على الأقل، هذا السؤال».