تزداد سيطرة التلفاز على حياتنا اليومية، الصغار صاروا مرتبطين به ويمضون ساعات أمام شاشته، رغم تحذيرات المختصين، ولا يتنبه الأهل إلى أن أداة التسلية هذه توجه أطفالنا وتحدد خياراتهم... بل إنها تمنعهم من تطوير قدراتهم إذا استسلموا لها. حضور الأهل ضروري لاختيار البرامح المناسبة لأولادهم
حلا ماضي
أظهرت دراسات نفّذها المعهد القومي للصحة العقلية الأميركي وجود علاقة سلبية بين المشاهدة التلفزيونية والتحصيل الدراسي، فكلما ازدادت مشاهدة الأطفال للتلفزيون انخفضت قدرتهم على التركيز والاستيعاب. وقد أُطلق على هؤلاء الأطفال «القرّاء الكُسالى»، وثبت أن الصغار الذين سُمح لهم بمشاهدة التلفزيون يومياً ساعات كثيرة في السنوات السابقة لدخولهم المدارس، حصلوا على درجات منخفضة في القراءة والحساب واختبارات اللغة. هذا ما دفع تربويين إلى إعلان «التلفزيون ليس ذا قيمة ويستحسن إقفاله»!
ولكن «إغلاق التلفاز» أصبح أمراً من «المستحيلات»، فهو كما تقول الأستاذة في كلية التربية الدكتورة فاديا حطيط «نافذة على الثقافة والعالم لا يمكن إغلاقها، إذا انتبه الأهل لكيفية التعامل معها لجهة اختيار البرامج الموجهة للأطفال وتحديد عدد الساعات المسموح للطفل فيها بالجلوس أمام التلفزيون»، فلا يجوز أن تتعدى المشاهدة ثلاث ساعات موزّعة بين الليل والنهار.
وماذا عن الأطفال الذين يمضون ساعات طويلة جداً أمام الشاشة؟ السلبيات كثيرة، وبعض ما يقوله المختصون يفاجئنا. إنه «يؤثر على قدرة الطفل في اللفظ ويحدّ من كلامه». تقول عميدة كلية تقويم النطق في الجامعة اليسوعية الدكتورة ربى خوري إن التلفزيون لا يعلّم الولد الكلام بل «يعلّمه السكوت وعدم المشاركة في الأحاديث العائلية وعدم التركيز، لأنه ينقل صوراً وأضواءً فقط، ذلك أن آليات فيزيولوجية معيّنة في العينين والأذنين والدماغ تستجيب للمثيرات المنبعثة من شاشة التلفزيون، بصرف النظر عن المضمون المعرفي للبرامج»، التفاعل مع التلفزيون يتم باتجاه واحد، وتشدد خوري على أن «التلفزيون يفشل في العمل كبديل كافٍ من الفرص اللغوية الواقعية»، وتلفت إلى أنها كثيراً ما تصادف أطفالاً في المرحلة المدرسية الأولى عاجزين عن التفوّه بجملة واحدة مفهومة، رغم أن الفحوص الطبية لا تظهر وجود أي سبب مرضي لذلك، وعادة ما تُشخّص الحالة على أنها عيب في النطق، ولكنها في الحقيقة «ناتجة من عدم سماع أي شيء سوى صوت التلفاز، ونادراً ما يُوجه إليهم الآخرون الحديث».
نعتقد عادة أن مشاهدة التلفزيون تفتح آفاقاً واسعة أمام الأطفال، سواء لناحية التعرف إلى أمور جديدة في العالم، أو من حيث تقوية اللغة الإنكليزية المسيطرة «على معظم البرامج»، لكن حطيط تلفت إلى أن حاجات الصغار مختلفة عن حاجات البالغين، فنموّ الأطفال يتطلّب فرصاً لتحقيق علاقات أسرية سوية، لكي يتمكنوا من فهم أنفسهم «أما المتابعة التلفزيونية فهي تقلّص هذه الفرص، وهم بحاجة إلى تنمية قدرتهم على التوجيه الذاتي حتى يحرروا أنفسهم من التبعية لهذا الجهاز».
والأطفال، كما تقول حطيط، في حاجة إلى اكتساب مهارات الاتصال والتواصل الأساسية، كتعلُّم القراءة والكتابة والتعبير عن الذات بمرونة ووضوح، كي يؤدّوا وظائفهم كمخلوقات اجتماعية.
ومع الأهمية الكبيرة للتلفزيون كوسيلة تربوية من خلال بعض البرامج، فإن سلبيات الإكثار من المشاهدة له تؤدّي إلى انعدام التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، وخلق نوع من «البرودة» بين الأهل، إضافة إلى تزايد الأطفال البدناء بسبب طول ساعات المشاهدة وعدم القيام بأي تمرين رياضي، بل استبدال ذلك بتناول المشروبات الغازية وأنواع مختلفة من «البطاطا المحمصة» أو البزورات، وكل ذلك يترافق مع الاستهلاك الإعلاني الذي يتلقّاه الطفل أثناء جلوسه أمام التلفزيون لحثّه على شراء بعض السلع المرتبطة بشخصيات الأفلام أو الصور التي يشاهدها.
وللتقليل من سلبية بعض المشاهدات التلفزيونية، تنصح حطيط الأهل بالجلوس مع أبنائهم لبعض الوقت، ومتابعة ما يشاهدونه ومناقشته معهم، حتى لا تبقى الصور الخيالية أو السحرية راسخة في أذهانهم، وتفضّل حطيط ألاّ يجلس الطفل وحده أمام شاشة التلفزيون، بل أن يكون دائماً برفقة أصدقائه أو أشقائه.
وسألت حطيط أيضاً عن الدور الذي تضطلع به وزارات التربية والثقافة والإعلام في توجيه الوسائل المرئية في ما يخص برامج الأطفال، وتساءلت عن «البرامج التربوية» التي يحملها السياسيون في برامجهم الانتخابية.

خطر الانزواء

وماذا عن التأثير النفسي، ما هي انعكاسات الساعات الطويلة أمام التلفزيون؟
المعالجة النفسية والأستاذة في جامعة البلمند الدكتورة إيلين عيسى تشير إلى أن التلفزيون يُعدّ من وسائل الترفيه والتثقيف إذا أخذنا في الاعتبار المضامين الفكرية التي تقدّم في العديد من البرامج، وهذا ما يفتح آفاقاً جديدة وقيّمة للطفل، فالولد من خلال مشاهدته بعض البرامج تتكوّن لديه فرصة التماهي بشخصيات و«ينفّس الغضب الذي يعتمل داخله». إلا أن المشاهدة التلفزيونية تصبح مؤذية عندما تطول، وتؤثر سلباً على النواحي الفكرية والحركية والعلاقات الاجتماعية، وتشير عيسى إلى أن المبالغة في المشاهدة التلفزيونية تخلق لدى الطفل ميلاً إلى الانزواء والتماهي الكلي في القصة التي يشاهدها، فلا يعود التعاطي مع المحيط أمراً مهماً بالنسبة إليه، بل يصبح التلفزيون عالمه الوحيد. وتلفت عيسى الأهل إلى ضرورة مساعدة الولد بوضع ألعاب تربوية أمامه، وخاصة لعبة Puzzle، والقيام معه ببعض التمارين الرياضية وغيرها.


«تلفزيون الواقع»
من الأمور التي يجدر التوقف عندها، ومن الأسئلة التي يطرحها الصغار، تلك المتعلقة بكيفية «دخول أناس حقيقيين» إلى التلفزيون، وقد خصصت مجلة “psychologies” الفرنسية ملفاً، يحذّر الأهل من التماهي مع شخصيات هذه البرامج والاستسلام للشاشة ساعات لمتابعة تفاصيل يوميات المشاركين في البرامج