قدّم الرئيس حسين الحسيني، أمس، استقالته من مجلس النواب في ختام كلمته التي ألقاها في جلسة مناقشة البيان الوزاري، احتجاجاً على ما اعتبره إمعاناً في تمزيق الدستور. ننشر هنا نص كلمة الحسيني، نظراً لأهميّتها في تحديد مكامن الخطر في المشروع الذي يجرّ الطاقم السياسي الحالي البلاد إليه
حسين الحسيني
دولة الرئيس، الزملاء الكرام،
أقول بصدق: أكثر يوم ينطبق على وضع الناس القول «الناس من خوف الذّلّ في ذلّ». لقد بدأنا بالكلام عن شخص الإمام السيد موسى الصدر، ولو هذا الكلام أتى متأخراً، فلا بدّ أن نتكلم عن نهج الإمام السيد موسى الصدر. تعلمون أنّه منذ بيان حكومة الرئيس رياض الصلح عام 43 والتمنيات التي تضمنها البيان وحتى الآن قُيّض لنا وطن ولم يُقيّض للوطن دولة. وانفجر الوضع عام 1958 وأتى الرئيس اللواء فؤاد شهاب، وأتى ببرنامجٍ إصلاحيٍّ فعليٍّ لإقامة الدولة، غير أنّ التطورات الإقليمية والظروف المحلية حالت دون ذلك، فاكتفى الرئيس شهاب ببرنامجه التنموي والإداري فقط دون السياسي. كانت الأكثرية الساحقة في المجلس النيابي ترغب في أن يعود اللواء فؤاد شهاب ويرشّح نفسه مجدداً لانتخابه رئيساً للجمهورية، ويومها قال الرئيس اللواء شهاب ما حرفيته، لن أقرأ كامل الخطاب، لكن في مقاطع منه يقول:
«وانطلاقاً من تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال نظرتي الخاصة إلى معنى السلطة وإلى المهمات التي يجب أن تؤدّيها الدولة والهالة التي يجب أن تلازمها، ونظراً إلى ما يمكن أن يتلاءم وأسلوبي الخاص في العمل وإلى ما يأمله ويتطلبه اللبنانيّون من رجلٍ خبر الحكم، يبدو لي الموقف على الوجه التالي: إنّ المؤسسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتّبعة في العمل السياسي لم تعد في اعتقادي تشكّل أداةً صالحة للنهوض بلبنان وفقاً لما تفرضه السبعينات في جميع الميادين، ذلك بأنّ مؤسساتنا التي تجاوزتها الأنظمة الحديثة في كثيرٍ من النواحي سعياً وراء فاعلية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداث عابرة ومؤقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهّل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كلّ ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعملٍ جدّي على الصعيد الوطني. إنّ الغاية من هذا العمل الجدّي هي الوصول إلى تركيز ديموقراطية برلمانية أصيلة صحيحة ومستقرة، وإلى إلغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيّين في إطار نظامٍ اقتصاديٍّ حرٍّ سليم يتيح سبل العمل وتكافؤ الفرص للمواطنين، بحيث تتأمن للجميع الإفادة من عطاء الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية الحقّ».
مررنا بظروف صعبة، واندلعت الحرب مجدّداً عام 1975 وكأنّ الرئيس فؤاد شهاب تنبّأ بما حصل أو بما سيحصل.
وفي تاريخ 11/5/1975 كان الجواب الأول على كتاب اللواء شهاب، أتى الجواب الأول بعد هدنةٍ خلال حرب السنتين، واسمحوا لي بأن أقرأ الوثيقة التي أُعلنت برئاسة الإمام السيد موسى الصدر، حيث كان لبنان يفتقر إلى الرؤية الوطنية والهوية العربية وتحديد النظام السياسي، كانت هذه أول ورقة من جهة إسلامية تعلن ما يأتي:
أولاً ـــــ في هوية لبنان ونظامه
تجدّد الطائفة الإسلامية الشيعية إيمانها بلبنان الواحد الموحّد: وطناً نهائياً بحدوده الحاضرة سيداً حرّاً مستقلاً. عربياً في محيطه وواقعه ومصيره، يلتزم التزاماً كلّيّاً بالقضايا العربية المصيرية، وفي طليعتها قضية فلسطين. منفتحاً على العالم بأسره، يلتزم بقضية الإنسان لأنّها من صلب رسالته الحضارية. جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامّة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى مبدأ فصل السلطات، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، في نظامٍ اقتصاديٍّ حرّ مبرمج، ووفق تخطيطٍ علميٍّ إنمائيٍّ شامل لمختلف الطاقات والاحتياجات والنشاطات في جميع المضامير: بلد الكرامة الإنسانية والطموح الحضاري.
وتشدّد الطائفة الإسلامية الشيعية على أنّ هذه الأوصاف ليست كلّيّاً أو جزئياً، ولا يمكن أن تكون، موضوع مساومة أو تسوية، لأنّها ليست عارضة أو طارئة، وليست مطلباً من مطالب فئة دون أخرى، بل هي منبثقة من جوهر وجود لبنان، ومن صميم كيانه، ومن رسالته التاريخية، ومن آفاق مصيره، ومن طموح أبنائه وتطلعاتهم المستقبلية.
وتضمّنت الورقة ما لا يمكن القبول به:
1ـــــ تقسيم لبنان. إنّ الطائفة ترفض رفضاً باتّاً أيّة صورة من صوّر التقسيم، تحت ستار لامركزية سياسية، أيّة كانت هيكليتها. وهي على العكس، ترحّب بأيّة صيغة للامركزية الإدارية التي من شأنها تعزيز الحكم المسؤول في المناطق واختصار المعاملات الروتينية وتقريب القضاء من المتقاضين وإشراك الهيئات الشعبية والبلدية ومجلس المحافظات في إدارة الشؤون المحلية.
2ـــــ تشويه وجه لبنان الحضاري بتحجيم دوريه العربي والدولي، أو بقطعه عن المدّ الحضاري الإنساني، أو بجرّه إلى أيّ محور سياسي عربي أو دولي بحيث يتقوقع ويتقزّم أو يتحيّز ويفقد طابعه المميّز.
3 ـــــ تحجير الصيغة اللبنانية بحيث يبقى عامل القلق على المصير عند البعض ذريعة للمحافظة على امتيازاتٍ فئوية، بينما يبقى عامل الغبن عند البعض الآخر باباً للنزاع، وبحيث يبقى العاملان معاً ثغرتين في الكيان تنفذ منهما المؤامرات على سلامة البلد واستقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه.
4 ـــــ أيّة تسوية بين الفرقاء على حساب الوطن ـــــ ولو مؤقتة. وقد علّمتنا التجارب أنّه لا يدوم إلاّ المؤقت ـــــ بحيث يسفر الحوار المرتقب عن رغبةٍ صادقةٍ مدعومةٍ بتخطيطٍ شاملٍ لتحديث الدولة في جميع مرافقها، تحديثاً جذرياً، ولحلّ المشاكل الاجتماعية التي تتفاقم، ولإيجاد تكافؤ الفرص للجميع على أساس الكفاية والنشاط والإخلاص، في ضوء رؤيةٍ مستقبليةٍ مستمرة الاستكشاف، مستمرة التركيز والتحسين.
هذه النقاط الأربع، يهمّ الطائفة الإسلامية الشيعية أن تشدّد على رفضها جملةً وتفصيلاً لأنّها شبه قنابل موقوتة، لا بدّ من أن تؤدّي إلى الانفجار عند أوّل فرصة تسنح.
في الإصلاح السياسي، نطالب بـ:
1ـــــ إلغاء الطائفية السياسية في جميع مرافق الحياة العامّة. 2ـــــ اعتماد الاستفتاء الشعبي في القضايا المصيرية. 3ـــــ تشكيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي أو مجلس الشيوخ أو كليهما. 4ـــــ تعديل قانون الانتخابات النيابية على أساس جعل لبنان كلّه دائرة انتخابية واحدة واعتماد البطاقة الانتخابية وإجراء الانتخابات في يومٍ واحد.
وقد استدرك الإمام الصدر بعد طباعة هذه الورقة التي كانت أساساً من أسس أوراق الوفاق، فوضع بخط يده عبارة: وتمهيداً لهذه الغاية وإلى أن تشمل لبنان بأسره أحزاب وطنية يمكن اعتماد الدائرة الموسّعة بحيث لا تقلّ عن المحافظات.

من عزوف فؤاد شهاب إلى اتّفاق الدوحة

الجواب الثاني كان بعد الانسحاب الإسرائيلي، حيث استُكملت الرؤية، فصدرت ثوابت الموقف الإسلامي من دار الفتوى التي هي تقريباً نفس مضمون ورقة العمل الإسلامية الشيعية بحيث ورد:
لبنان وطن نهائي بحدوده الحاضرة المعترف بها دولياً، سيّداً حرّاً مستقلاً، عربياً في انتمائه وواقعه، منفتحاً على العالم، وهو لجميع أبنائه، له عليهم واجب الولاء الكامل ولهم عليه حقّ الرعاية الكاملة والمساواة. وقد وقّع ثوابت الموقف الإسلامي مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رئيس المحاكم الدرزية الشيخ حليم تقي الدين، عادل عسيران، صائب سلام، سليم الحص، حسين الحسيني، سامي يونس.
واستمر العمل في هذا النهج إلى أن تبلورت المبادئ الأساسية اللبنانية في إطار مجلس النواب وأنجزت الورقة في 10 آذار 1985 وفيها:
ميثاق العيش المشترك ميثاقٌ مقدّسٌ لا شرعية لأيّ سلطة تناقضه، وكلّ عملٍ يرمي إلى نقضه يشكّل خيانة عظمى.
مسلّمات العيش المشترك في المجتمع اللبناني الواحد، أربع مسلّمات تشكّل معنى لبنان، أوّلها الحرية، وثانيها المساواة، وثالثها العيش الكريم، ورابعها التكافل والتضامن، وذلك في إطار الدولة الواحدة وبالولاء التام للوطن الواحد.
وقد تضمّنت هذه الورقة فعلاً الاستراتيجية الحقيقية التي سنأتي على ذكرها في ما بعد، وهي موقف لبنان من إسرائيل: إنّ موقف لبنان من إسرائيل ينطلق من الموقف العربي العام، ومن حقوق الشعب الفلسطيني، وقبل ذلك، ينطلق من حقيقة أطماع إسرائيل بأرض لبنان ومياهه، ومن مخططاتها لضرب الصيغة اللبنانية القائمة على التسامح والعيش المشترك، وهي صيغة تناقض طبيعة الكيان الإسرائيلي المبني على العنصرية الدينيّة، لذلك، فإنّ الموقف اللبناني، يفرض تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، ويتنافى مع أيّ شكلٍ من التعاون أو التعامل مع العدو الإسرائيلي المحتل.
وهنا لا يفوتني القول بأنّ المقاومة تأسست بعد اجتياح إسرائيل للبنان في 16ـــــ 17 أيلول 1972 وكان الإمام الصدر هو المؤسس الأول، وقد شارك في عمليات التأسيس في ما بعد عدد كبير من الشخصيات اللبنانية، أذكر منهم الزميل غسان تويني. وقد نصّت هذه الورقة التي استحوذت على تأييد جميع كتل المجلس عام 1985:
مقاومة الاحتلال حقٌّ لكلّ لبنانيّ وواجبٌ عليه، يقوم به بشتّى الأشكال المؤدّية إلى تحرير الأرض والإنسان، وهي دفاعٌ عن الحريّة الراسخة في تراث اللبنانيّين، وممارسةٌ لتلك الحريّة، أمّا التعاون مع الاحتلال فذلٌّ وخيانة للوطن، فلا كرامة مع الاحتلال ولا حريّة من دون تحرير.
وطبعاً قبلنا بالدولة المدنية.
هذه الورقة كان يجب أن تُعلن بعد 10 / 3 / 1985 ويومها كما تذكرون حصلت الانتفاضة في 12 آذار 1985، فتوقف العمل بهذه الورقة مؤقتاً.
طبعاً كان الوفد اللبناني في زيارة الفاتيكان قد استبدل هذه الورقة بالمذكرة التي رُفعت إلى البابا يوحنا بولس الثاني، وهنا لا بدّ أن أذكّر بالأجواء حيث، من على منبر رئاسة هذا المجلس وبعد تجديد انتخابي رئيساً للمجلس، استهللت كلامي بالتالي: أيّها الزملاء، إنّ أخطر ما يواجهه وطنٌ من الأوطان، هو أن يصبح، في نظر أهله، منطقةً من المناطق. إنّ أخطر ما يواجهه شعبٌ من الشعوب، هو أن يصبح، في علاقات أبنائه، تجمّعاً من التجمّعات. إنّ أخطر ما يواجهه دينٌ من الأديان، هو أن يصبح، في إيمان أتباعه، طائفةً من الطوائف. إنّ أخطر ما تبلغه حربٌ من الحروب، هو أن تصبح ممارسة أطرافها حرباً بلا وعد. إنّ تأملاً بسيطاً يكفي لأن ندرك حقيقة هذه الأخطار، بما هي أهدافٌ ثابتةٌ لعدوٍ واحدٍ.
استُكملت الأمور بكثير من الأوراق، إلى أن وصلنا إلى الورقة مع غبطة البطريرك صفير التي تضمّنت، وهذه هي أول مرة أكشف عنها، والبطريرك صفير كشف عن جزءٍ منها في مذكّراته التي قرأتها سابقاً، وأهم ما في هذه الورقة أنّها تضمّنت الاستراتيجية في الموقف من العلاقات اللبنانية ـــــ السورية ومن الموقف من إسرائيل بحيث تضمّنت التالي:
في الموقف من إسرائيل: إنّ موقف لبنان من إسرائيل ينطلق من الموقف العربي العام، ومن حقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، وقبل ذلك ينطلق من وعي الشعب اللبناني أطماع إسرائيل المباشرة بأرض لبنان ومياهه، ومخططاتها لضرب الصيغة اللبنانية القائمة على التسامح والعيش المشترك، وهي صيغة تناقض طبيعة الكيان الإسرائيلي المبني على العنصرية الدينية. لذلك فإنّ الموقف اللبناني يفرض تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي ويتنافى مع أيّ شكلٍ من أشكال التعاون أو التعامل مع العدو الإسرائيلي المحتل، وذلك يتطلب:
‌أـــــ اتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها.
‌ب ـــــ التمسك بقرارات مجلس الأمن الدولي وفي مقدمتها القرار رقم 425 القاضي بإزالة الاحتلال الإسرائيلي من جميع الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط.
‌ج ـــــ التمسك باتّفاقية الهدنة الموقّعة في الثالث والعشرين من آذار 1949.
كما تضمّنت هذه الورقة الكلام على الدائرة الانتخابية فقالت:
1ـــــ نفس التوزيع الذي ورد، فيما في الدستور توزّع المقاعد النيابية
2ـــــ لبنان دائرة انتخابية واحدة
3ـــــ يضمن المرشح نسبة 10% من عدد الناخبين في القضاء الذي يختاره لكي يقبل ترشيحه في الدائرة الوطنية الواحدة.
هذه كانت قبل الوصول إلى الطائف، وهذه الورقة هي خلاصة اتّفاق الطائف.
بعد إقرار الإصلاحات السياسية، وهنا أؤيد ما جاء على لسان دولة رئيس المجلس لجهة موضوع مقدمة الدستور. هذه المقدمة هي الميثاق الوطني المكتوب، كان عندنا ميثاق غير مكتوب، وأصبح لدينا مقدمة الميثاق المكتوب. ومن مراجعة محاضر إقرار الإصلاحات الدستورية، يتبين لنا أنّه كان هناك إجماع على أنّه لا يمكن تفسير أيّ نصّ من نصوص الدستور إلاّ في ضوء هذه المقدمة، لأنّ هذه المقدمة هي العهد، ولا يمكن أن تعدّل أو تبدّل أو تحوّر بأكثريات موصوفة أو غير موصوفة. هي تحتاج إلى إجماع وطني.
بعدها في 21 آب 1990، كان البرنامج هو التالي:
المطلوب ورشة عمل حقيقية لإصدار القوانين التطبيقية للدستور والميثاق، والدستور هو الإطار، لكنّه يحتاج إلى قوانين تطبيقية:
1ـــــ قانون تنظيم دوائر رئاسة الجمهورية وتنظيم عملها؛ 2ـــــ قانون الانتخاب لتأمين برلمانية النظام والمراقبة والمحاسبة؛ 3ـــــ قانون تنظيم أعمال مجلس الوزراء كونه السلطة التنفيذية؛ 4ـــــ قانون تنظيم دوائر رئاسة مجلس الوزراء وعملها؛ 5ـــــ قانون تحقيق السلطة القضائية المستقلة تأميناً لمبدأ الفصل بين السلطات وخضوع المسؤولين والمواطنين لسيادة القانون؛ 6ـــــ قانون الجيش وفقاً لأحكام الدستور والميثاق الوطني؛ 7ـــــ قانون تنظيم الأجهزة الأمنية وعلاقاتها بالسلطات كافة؛ 8ـــــ قانون التنظيم الإداري للدولة ـــــ الوزارات والإدارات؛ 9ـــــ قانون اللامركزية الإدارية وتحديد التقسيمات الإدارية؛ 10ـــــ إطلاق خطة التنمية الشاملة للبلاد (وهي موجودة وغير معمول بها)، والمهم هو إشعار المواطنين على اختلاف انتماءاتهم، وخصوصاً المناطقية، بأنّهم في وطنٍ واحدٍ والولاء الوطني له. والتشديد على التربية والتعليم وتحصيل المعرفة، والصحة الوقائية والعلاجية، والزراعة والإقراض الزراعي والصناعة والسياحة وغيرها من برامج التنمية لتثبيت المواطنين في مناطقهم؛ 11ـــــ إعادة تنظيم وسائل الإعلام في ظلّ القانون وفي إطار الحرية المسؤولة بما يخدم الوفاق وإنهاء الحرب.
وكلّها قوانين لم تصدر حتى الآن.
لدينا وطن، وفي خضمّ الأحداث، الإبقاء على وطن ليس بالشيء القليل على الإطلاق. لكن أين نحن من كل ذلك؟ نستغرب ما حصل لنا أخيراً، حيث بتنا أمام حالةٍ دفعتنا إلى عنف السلاح والمال، وكلّ عنفٍ إكراه. ومع تفتيت السلطة السياسية لا يمكن وضع أيّ استراتيجية سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية. ما دمنا نحن لم نقم الدولة، هناك تعاطف للأزمات وتفارق للسلطات، ومعالجة المشاكل التي أثارها الحوار الماضي عام 2006 تفترض فهماً شاملاً لاستقراء الأحداث واقتراح الحلول والتدابير باعتبار أنّ الحدث لا يحمل معنىً واحداً، إذ نحن إزاء أحداث تاريخيّة. الخطاب السياسي بمجموعه لا يرتقي إلى مستوى البناء المنطقي، ومن الطريف أن يكون هذا الخطاب مدعاة فخرٍ لأصحابه إزاء مهمات تاريخية استثنائية. هل بُني دستورنا على خدعة؟ بالأمس القريب زار لبنان رئيس فرنسا السيد ساركوزي، وشاركنا في الاستقبال، وراقبنا وسائل الإعلام حيث قيل: «الرؤساء الثلاثة» استقبلوا الرئيس الفرنسي، وكان يرافق الرئيس الفرنسي رئيس وزراء فرنسا. لماذا لم يُذكر الأخير؟ لأنّ في فرنسا دولة ولها رئيس دولة. نحن ما زلنا، وبالرغم من النصّ الدستوري الذي يقول إنّ رئيس الدولة هو رئيس كلّ السلطات، ومع ذلك لا نزال نتعامل معه على قدم المساواة مع رئيس المجلس ورئيس مجلس الوزراء. وهذا يدلّ على عدم وجود الدولة. وإلاّ ما كان صدر مثل هذا الخبر. وأنا أناشد رئيسي المجلس والحكومة إلى المبادرة إلى تصحيح هذا المفهوم في وسائل الإعلام، ومن دون أن يبادر غيرهما إلى تصحيح هكذا موضوع.
أقول هذا لأصل إلى ما تمّ في الدوحة، وقد ذكرت ما تعهدنا وتعاهدنا مع الإمام موسى الصدر وأين أصبحنا الآن. اتّفقنا في الدوحة وشكراً للمتّفقين في الدوحة وهم كانوا من أهل البيت قبلها، لأنّهم هم فريق السلطة. تسمية معارضة وتسمية موالاة هي من الأخطاء الشائعة وليست صحيحة. هناك تحالف رباعي نتج منه حكومة متشاركة، واتّفق في الحكومة بأنّ الأربعة عندما يقرّرون، تلتزم المؤسسات بقرارهم. وعندما اختلفوا، أصبحوا معارضة وأصبحوا موالاة. ففي الدوحة، شكراً، عادوا كلّهم سلطة. الآن، هذا يستوجب الشكر بأنّهم عادوا إلى بعضهم البعض، وبالتالي، رفعوا الحواجز، وانتُخب رئيس الجمهورية الذي كان قد انتُخب من الرأي العام المحلي والعربي والدولي قبل أن ننتخبه في هذا المجلس. انتخبناه وهو الأمل الوحيد في أن ننتقل من اللاشرعية إلى الشرعية، ذلك لأنّه لا يخفى عليكم، أيّها السادة، أنّ مجلسنا هذا، والمجلس الذي سبقه قد انتُخبا في ظلّ قانون الـ2000 المخالف للدستور والمخالف لوثيقة الوفاق الوطني. أي، بمعنى آخر، يمكن أن نصف المجلس بأنّه مجلسٌ قانونيٌّ ولكنّه يفتقر إلى الشرعية الشعبية الحقيقية. الآن، نشكر على انتخاب رئيس للجمهورية، ولكن ماذا فعلنا في الدوحة؟ بيان الحكومة ينبئنا بما حصل في الدوحة. ينبئنا بأنّه اتّفق في الدوحة على تأليف حكومة ممنوع على أيّ وزيرٍ فيها أن يستقيل. أتساءل: هل نحن ما زلنا في نظامٍ ديمقراطيٍّ برلمانيّ حقيقةً؟ مَن يستطيع أن يقيّد إرادة وزير في أن يستقيل أو لا يستقيل؟ هذا لا يليق بحكومة تمثّل الشعب اللبناني. الشعب اللبناني شعبٌ راقٍ حصّل ثروات هائلة من الحريات العامّة ومن الممارسة الديموقراطية ومن العيش المشترك المسيحي ـــــ الإسلامي ومن الحوار الحرّ ومن النخبة اللبنانية التي نفخر بها في الداخل وفي الخارج. هذه النخبة المبعدة بواسطة قانون الانتخاب. ماذا نفعل؟ نأتي لنقول بحكومة تصادر حرية الوزير قبل أن تحافظ على حريات الناس. لا أريد أن أدخل في البيان الوزاري لأنّ 48 صفحة، حقيقةً، هي فارغة من كلّ معنى، بما في ذلك هذا التراجع المخيف في النظرة إلى القضاء. فإذا راجعنا البيان الوزاري لحكومة الرئيس السنيورة عام 2005 وقرأنا ماذا تضمّن بالنسبة إلى القضاء، نجد أنّنا تراجعنا أشواطاً وأشواطاً. إنّني، مخلصاً، أيّها السادة، أنصح ونصيحة لوجه الله: إنّنا نتوهم بأنّ حليمة يمكنها أن تعيد عادتها القديمة. المهم أنّنا نتوهم أنّنا نؤيّد وجود الطبقة السياسية ونمنع تجديدها عن طريق قانون انتخاب قال فيه الرئيس اللواء فؤاد شهاب ما قال وقالت فيه وثيقة الوفاق الوطني ما قالت، نعود الآن لنقول: لنجعلها لمرّةٍ واحدة ونقبل بالاستثناء!! أيّ استثناءٍ هذا؟ الحالة الاستثنائية هي التي تُفرض على الناس من خارج إرادتهم، هي قوة قاهرة، هي ظروف طارئة. أمّا أن نفتعل ظروفاً استثنائية وأن نحتج بها، فهذا لا يمكن أن نصدّقه! نصيحتي هو أنّكم يمكن أن تؤبّدوا لمرة أو لمرتين هذه الطبقة، ولكن أسفي وخوفي الكبير هو أنّكم لا تستطيعون الإبقاء على الوطن. الوطن في خطر أكبر ممّا تعتقدون.
وهنا، لا بدّ أن آتي إلى الخطاب السياسي الذي نتبادل فيه، وسبق لي أن قلت في هذا المجلس:
المودّة أصل الإرادة والمحبّة، أصلهما الواحد. المودّة والكراهة فرعٌ ونسبة. ولولا المودّة لما أحبّت أمّ، ولا نطق طفل، ولا أراد مريد، وما كانت لغة وما كان مجتمعٌ لبني البشر. إنّني أذكر هذا الأمر الذي يستشعره أيّ واحدٍ منّا، في بساطة التجربة، وأذكّر به، لأنّنا نعيش في حياتنا الاجتماعيّة ما يحملنا على نسيان هذا الأمر، بل على إنكاره، ما يحملنا على إشاعة الكراهة. وذلك انحرافٌ، يقع عندما تضيق صدورنا بما هو غيرنا، فلا يحبّ إلاّ ذاته الفرديّة، فيكون أنانياً، أو لا يحبّ إلاّ ذاته الجماعية، فيكون طائفياً أو مذهبياً.
أيّها السادة، لم أرَ في حياتي السياسيّة التي تقارب النّصف قرن، في الحرب والسلم، في الحكم والمعارضة، تناقضاً كهذا التناقض. لم أرَ في حياتي السياسيّة تمزيقاً للدستور كهذا التمزيق، حيث ندفع بنصّ الدستور إلى أن يكون استهزاءً بروحه. إنّه لأمرٌ محزنٌ حقّاً أن يستمرّ هذا المشهد: كأنّنا لم نتعلّم من تجارب الماضي، كأنّنا نريد دولةً بلا مؤسّسات، كأنّنا نريد وطناً بلا مواطنين. وإن يكن الأمر كذلك، فما السبب في عجزنا، بعد كلّ هذه التجارب، عن الاتّفاق على قانون انتخابٍ صالحٍ، ووفقاً لأحكام وثيقة الوفاق الوطني والدستور؟ ومن السهل، بل من الحقيقة، أن نقول إنّها مسؤوليّة الطبقة السياسيّة. لكنّني أجد نفسي مجبراً على القول الصريح: إنّها مسؤوليّة الطبقة الماليّة المتحكّمة والطبقة الثقافيّة المعطّلة. إنّ أغرب ما في الأمر هو أن نكون مدعوّين إلى الفرح بتعليق قيام الدولة، وإلى تقديم الشكر. وأمام هذه الحقيقة، حقيقة أنّ السلطة قادرةٌ إذا أرادت، وحقيقة أنّها حتى الآن لا تريد، أجدني مضطرّاً إلى إعلان استقالتي من عضوية هذا المجلس، عودةً منّي إلى أصحاب الثقة التي باسمها يكون عملي. ولن يمنعني غيابي عن مركزٍ أو وجودي فيه، من القيام بواجبي الوطني الذي لن أحيد عنه. رأيت لبنان وطناً ورأيت اللبنانيّين مواطنين، وقد عملتُ، وقد يصبح المرء عقبةً أمام ما أراد، إلاّ أنّ للفرد أن يعرف حدوده.