نوال العلي
«فلسطين» منقوشة في لوحة فسيفساء أمام البوابة، النباتات والأشجار تحيط بمنزلها، و«زعتر»، كلبها الأشقر لم يتوقف عن النباح حتى نهرته، وقد ارتبكت حين رأيتُها بقميص نومها، فاختفت وعادت متأنقة تحمل كوب النسكافيه في يدها.
لا أدري لماذا توقَّعتُ أن أرى فتاةً مزنّرة بحزام عسكري. هل نسيت أنّها تجاوزت الستّين؟ أم خيّل إليّ أنّ المحاربين لا يكبرون؟ تُرى ماذا تفعل مقاتلة في سنّها؟ كيف تقبل أن تجمِّد نشاطاتها؟ لماذا لا تشارك في مؤتمرات ومحاضرات مثلاً؟ انقطع شريط تساؤلاتي باتصال أجرته أمامي للتفاوض على تأشيرة سفر لحضور مؤتمر في دولة أوروبية، ويبدو أنّها لم تفلح في الحصول عليها!
تجلس ليلى خالد محاطة بكتب المسألة الفلسطينية، وصور جورج حبش وأبو علي مصطفى. كل شيء فلسطيني في المنزل، حتى إنّ بعض النباتات زرعت في أوعية المخللات الزجاجية، وهي عادة فلسطينية شعبيّة معروفة. لذلك كان مفاجئاً أن تقول ليلى بصوتٍ مخمورٍ بالنوم، «أنا في الأصل لبنانية من صور... لكني ولدت في حيفا عام 1944».
من حيفا لا تذكر سوى «الدرابزين»، كم ركضت لتختبئ من القصف، وكم أمسكت بقضبانه في انتظار الأب المقاتل، يبدو أن البنت سر أبيها أيضاً!
بنى الوالد الصوريّ مقهى في المدينة النابضة بالحياة والحرية، حاله كحال الكثير من اللبنانيين تلك الفترة. وحين اشتدت الاشتباكات في نيسان (أبريل) 1948، تحوّل المقهى إلى مقر للثوّار ومخزن للأسلحة، وظلّ كذلك حتى اختفى الأب، وقررت والدة ليلى اللجوء إلى ذويها في لبنان. ثم حلّت النكبة، وبدأ الجميع في الرحيل والنحيب؛ العابرون للحدود مشياً ومن كانوا بانتظارهم. كانوا يتحدثون عن «الخيانات العربية». تعبيرٌ لن تنساه ليلى حتى هذه اللحظة.
حياة من نوع جديد ستنتظر أفراد العائلة الاثني عشر... عمل وفقر وتنقل، وإلى ليلى ستسند وظيفة «عجن الطحين»، فتسهر ليلة بعد ليلة تعدّ خلالها 120 رغيفاً. الطالبة في مدرسة اللاجئين، كانت تلعب مع أقرانها من مخيم «البص» و«الرشيدية». لكنّها لم تكن يوماً ابنة مخيم، عاشت قريبة من ذوي والديها. أنفة والدتها قابلت أي معونة بالرفض، فذاق الجميع شظف العيش، ورحلت الطفولة مبكراً إلى غير رجعة.
في عام 1958، أخذ اسما جورج حبش ووديع حداد يترددان في منزل العائلة في لبنان، وقد أصبح مقراً لـ«حركة القوميين العرب» التي انتظم في صفوفها شقيقها وشقيقاتها. ونظراً إلى إلحاحها الشديد، قُبلت في الحركة كمتدربة، على رغم صغر سنّها.
وفي بداية الستينيات، أصرت العائلة على رحيل ابنتها إلى الكويت، لتعيل أشقاءها الأصغر سناً، تاركةً دراستها الجامعية، فرحلت وفي نيتها ألا تعود إلا «للقبر أو العمل السياسي». وهناك كُلّفت ليلى بجمع التبرعات وتنظيم الشباب سراً في الحركة، حتى وقعت النكسة 1967، فخرجت أول تظاهرة احتجاجاً على استقالة عبد الناصر، وطُرح تأييد المقاومة علناً لأوّل مرّة. كانت تصلها أخبار المعتقلين والشهداء من الجنسين في غزة والضفة، ما جعل ليلى خالد تستخف بكل عمل، وتتخذ قرارها القاطع بالكفاح المسلح. في عام 1969 أبلغت بالعودة إلى الأردن للالتحاق بمخيم تدريب، وبعد شهور طُلب منها حمل السلاح لتجتاز الحدود إلى لبنان.
في بيروت، حُبِست ليلى في شقة ثلاثة أيام من دون طعام. وفي اليوم الرابع، ظهر وديع حداد ليسألها: «هل أنت مستعدة لخطف طائرة؟». «انفجرتُ بالضحك. تخيّلت نفسي أركض وأنا أحمل طائرة والناس يطاردونني». الطائرة هي TWA الأميركية المتوجهة إلى تل أبيب. سافرت ليلى على متنها من روما في 28 آب (أغسطس) 1969، وكان يُفترض أن يكون إسحاق رابين ضمن ركابها، لكنّه غادرها فجأة في اللحظة الأخيرة.
اقتضى التدريب من ليلى ورفيقها سليم العيساوي أن يحفظا التعليمات غيباً، فالارتجال ممنوع حتى في الحديث العابر. وفعلاً، عبرت المرأة وزميلها حرس المطار بقنبلة ومسدسين، إذ لم يكن خطف الطائرات أمراً سائداً حينذاك. وبعد نصف ساعة من الإقلاع، ركض الاثنان إلى غرفة القيادة، سحبت ليلى مسمار الأمان من القنبلة، معلنة خطف الطائرة بهدف إطلاق سراح المعتقلين في فلسطين، ولفت أنظار العالم إلى القضية.
وأصبح الرمز الجديد للطائرة «الجبهة الشعبيّة ـــ فلسطين حرّة عربية»، المختطفة من جانب شادية أبو غزالة (الاسم الحركي لليلى) من مجموعة تشي غيفارا. وجّهت الرسائل إلى أثينا وقبرص وروما ومصر ودمشق ولبنان، فيما ليلى ورفيقها يطلبان من الطيار التحليق فوق حيفا ويافا، حيث أحاطتها الطائرات الإسرائيلية العسكرية، وأغلقت المدرجات بالدبابات. توجهت الطائرة إلى دمشق، وهناك أُفرغت من الركاب وفُجّرت، وقبع المقاتلان في زنزانة تحت الأرض أسبوعين. كان الرئيس حافظ الأسد وزير الدفاع آنذاك، هو مَن أبلغ ليلى ورفيقها بإطلاق سراحهما. قالت له ليلى: «المرة المقبلة أرجو أن تستقبلونا بطريقة أفضل». فما كان منه إلاّ أن سألها: «إنت بدك ترجعي المرة الجاية؟».
بعد العملية، قصفت إسرائيل منزل مهندس العمليات وديع حداد الذي اغتاله «الموساد » لاحقاً في بغداد عام 1978، ونجت ليلى خالد من محاولة اغتيال. بات وجهها معروفاً، وقد تلقّت التدريب الإعلامي على يد الشهيد غسان كنفاني، وأصبحت، على مضض، ناطقة باسم القضية في الصحافة العالمية. لكن رغبتها في القتال ظلّت متوهجة، وطلبت إجراء عمليات جراحية لتغيير ملامحها إلى «الأسوأ» كي تتمكّن من مواصلة الكفاح المسلّح.
وفي 1970 توجهت إلى فرانكفورت مع المناضل النيكاراغوي باتريك أرغويلو، هذه المرة لخطف طائرة «العال» الإسرائيلية كجزء من عملية مركبة لخطف ثلاث طائرات، واحدة في زيوريخ وأخرى في أميركا. انتهت العملية بكارثة، تخلف رفيقان لليلى عن الحضور، قتل أرغوليو ببشاعة وسقطت هي أسيرة لدى سكوتلانديارد. مضى شهر قبل إطلاق سراحها بعدما خطف رفاقها طائرة Pan America تخفي في جدرانها موازنة حلف شمال الأطلسي التي سلّمتها «الجبهة» إلى الاتحاد السوفياتي في مقابل الإفراج عن ليلى خالد. عادت ليلى إلى جحيم الحرب اللبنانية التي ابتلعت شقيقتها وزوج شقيقتها في دوّامة الجنون، وحروب الفصائل والتصفيات. لم تحمل سلاحاً لا في الحرب ولا أثناء الاجتياح، كانت أماً حبلى بطفلها الأول. غادرت كالجميع ووجهتها دمشق، حيث اقتصر عملها لعشرة أعوام على التنظيم في المخيمات الفلسطينية.
في مطلع التسعينيات، مضت لتعيش في الأردن، وتعيش حياة عاديّة كربّة بيت، ولم تعد مهمّاتها تلك تسمح لها بمزاولة أي نشاط، وإن كانت لا تزال عضو مجلس قيادي في الجبهة الشعبيّة. الآن تنظر ليلى إلى المقاومة من بعيد، تصف العمليات الاستشهادية في فلسطين بأنها «ليست أسلوباً استراتيجياً في الكفاح، لكن المقاومة تضطر إليها أحياناً». ومثل جنرال متقاعد، تعيش خالد في بيتها الهادئ برفقة زوجها وولديها، وقد أغلقت باب مغامراتها منذ أمد طويل... فالثوّار أيضاً يكبرون.


5 تواريخ

1944
الولادة في حيفا
1969
خطف طائرة (TWA) الأميركية المتوجهة إلى تل أبيب
1970
اعتقلت بعد محاولة فاشلة لخطف طائرة «العال» الإسرائيلية
1978
دراسة التاريخ في موسكو سنتين
1982
الزواج والرحيل إلى سوريا،
ومنها انتقلت للاستقرار في عمّان مطلع التسعينيات