لا يعرف أغلب الآتين حديثاً من القرى الجنوبية إلى بيروت إلا اسماً واحداً للعاصمة يطلقونه على وسط المدينة وضواحيها: «بيروت». مدينة لا تبعد عنهم كثيراً، لكنها لا تخلو من مفاجآت تتعدّى الزيارة الأولى
أحمد محسن
لا يجد عبد الأمير سويدان في بيروت شيئاً مميزاً، ويفضّل قريته ياطر «على الكون كله»، بيد أنه ليس معزولاً عما يجري فيها من أحداثٍ سياسية، وقد دفعته الحوادث الأمنية الأخيرة إلى زيارتها، فاكتشف أنها تختزن مفاجآت جمة «لا تمتّ إلى السياسة بصلة». فوجئ سويدان بالمتسوّلين المنتشرين على طريق المطار، وبزحمة السير الخانقة هناك. كان يسمع عنها كثيراً «لكن يصعب على المرء أن يتخّيل شكلها الحقيقي». فوجئ بعدد السيارات والفانات الهائل، وانتشار أنواع جديدة من المأكولات نتيجة ارتفاع عدد المطاعم «على حساب المصالح الأخرى». لكنه في الوقت عينه وجد فيها أموراً جميلة، تفتقدها حياة القرية، فقد اصطحبه أحد الأصدقاء إلى السينما، وأحب «الشاشة العملاقة والأصوات القوية».
يسهل التكهّن بالتفاوت الطبيعي في حجم الضجيج، بين المدينة والقرية، لكن الأمر لا يتعلّق بدور السينما، بل ينطبق على أبواق السيارات مثلاً، و«المشاكل الكثيرة التي تحصل بين الناس»، كما تقول مريم المقيمة في قرية حاريص، على تخوم بنت جبيل. مريم ظلّت تعتبر بنت جبيل مدينة حقيقية، تتميز عن القرى الصغيرة المحيطة، حتى زارت بيروت، ففي ضواحي العاصمة تختفي حياة القرية «والناس لا يعرفون بعضهم» بينما يحصل ذلك في مدينة جنوبية كبيرة كبنت جبيل. الأمر يتعدى ذلك، فتفشّي «صرعات الموضى» كما تصفه مريم، ينتهي عند حدود معينة في بلدتها، وقد لفتها عدد الشبّان الذين يسرّحون شعرهم إلى الوراء «ويربطونه كالبنات»، تقول ضاحكة قبل أن تذكر أن المصاعد الكهربائية «مخيفة»، وهي تخشاها، لأنها غريبة نوعاً ما، دون أن تنفي أن خوفها ليس مبرراً «فالناس هنا تستعملها بشكلٍ اعتيادي ولا شيء يدعو إلى القلق»، لكنها تشرح أن خوفها هذا يشبه «خوف الأطفال من الأشياء الجديدة» كأبناء أخيها، الذين يرتعبون في المصعد، ويتوقعون سقوطه بين لحظةٍ وأخرى.
محمود لا يخاف المصعد، ويعتبر الاختلاف «في طريقة الحياة» أمراً طبيعياً، فتركيبة الريف مختلفة، وشكل الدروب فيه مختلف، «حتى الهواء مختلف»، لكن ثمة ما يلفت نظره بشدة: «الجيش اللبناني». صار معلوماً أن الجيش اللبناني انتشر في الجنوب بعد عدوان تموز الأخير، لكن انتشاره بقي في مواقع عسكرية معينة، «فلا يختلط العسكر مع الناس في أماكن واحدة حاملين رشاشاتهم الآلية». يوضح محمود أنه يرحّب بمهمات الجيش، ويعتبره مضطراً في ظروف كهذه إلى التدخل لفض الإشكالات الأمنية المتلاحقة، لكن مشهد مدرعات الجيش، و«توجيه الأسلحة إلى وجوه الناس» آلمه كثيراً. رغم أنه يعلم أن هذا التوجيه هو مجرّد شكلي، يرفض أن تكون الأسلحة الثقيلة في ساحات واحدة، أمام الأطفال والمدنيين، فذلك «يسهم في تنمية نوع من الثقافة الحربية في وعيهم الاجتماعي» كما يصفها، مؤكداً أنهم بغنى عنها في المدينة، في ضوء التهديد الإسرائيلي المستمر للبنان.
لم يفاجأ أيّ من زوار بعض المناطق في بيروت بانقطاع الكهرباء، فقد اعتادوا على ذلك، ولم يلفتهم التنوّع السياسي، فذاكرتهم تحتوي على معلومات وافية عنه، وتنحسر الصور الجديدة التي يطّلعون عليها في الإطار الاجتماعي البديهي، الذي يميّز الحياة الريفية الهادئة عن العاصمة وصخبها. وفي هذا الصدد يردف محمود أنه صدم بتردد صوت الطيران الحربي في أجواء العاصمة مرات عديدة، وقد كان يعتقد لفترة طويلة أن الطيران لا يحلّق إلا فوق الجنوب، وإن وصل إلى بيروت «كما يذيعون في الأخبار» فالصوت لن يكون نفسه، إلا أن تحليق الطائرات الحربية في سماء العاصمة أثّر عليه عكسياً، وبعث الطمأنينة في نفسه: «الجميع يعلم أن إسرائيل عدوّ إذاً»، لا كما يشعر في بعض نشرات الأخبار.