أمل غزالمن أذن له بالغياب؟ من سمح له أن يترجّل ويترك جروحنا وحيدة تدمي؟ ألم يدر أنّا ما زلنا لم نبصر طريقنا إلى القرية المهجورة، أنّا ما زلنا نحمل مفتاحاً من الأربعينيات في أيدينا؟
كيف له أن يترك منبر الغضب والحنين والقضية المقهورة؟ كيف له أن يترك أيتاماً تبكي مكلومة؟
ما زلنا هنا يا محمود... ما زلنا هنا نأتمر بكلماتك، نتنشق عنفوانك، نبرد قلمك، نحضّر قهوتك، نشعل سيجارتك وننام منتظرين ثورة تنسجها من خيالك.
ما زالت بطاقتنا تحمل الرقم خمسين ألفاً، وما زال الحقل بدون رجال، والقرية من دون أسماء. ما زلنا نسجل «أنا عربي» وما زال أطفالنا ثمانية وأتى تاسعهم، وما زال يبحث عن شمس شامخة.
كيف تترك المحراث وترفع العقال عن كوفيتك؟ من أين نأتي برغيف الخبز الآن؟ صخورنا ملّت، لم تعُد تولد لنا ثوباً أو دفتراً ولم تعُد تأبه لمن يلامسها. وهناك من يتوسل ليل نهار وينام أمام البلاط، وأنت لن تكون هناك لتشعل جمراً ولتحمي شجرة الزيتون.
غادرت في زمن الحصار وفي زمن يولدُ فيه يوسف كل يوم وإخوة لا يزالون له بالمرصاد. غادرت والجوع لم يولِّد ما يكفي من الغضب. غادرت والغضب ينتظر خلف جدار الفصل ووراء بحر يموت من العطش. وهناك من بقي من حيث أنت رحلت. هناك من لم يعبرْ الحدود وما زال يحنّ إلى خبز أمه، وما زالت الأم تخبئ حبوب البنّ وما زال البنّ يحتمي من اللصوص والرصاص.
من سيحفظ أرقام السجناء وعدد الموتى وألوان السماء؟ من سيعدّ النجوم والكواكب وعلى دربها يخطّ طريق عودة لمن أراد أن تدفن أمه عظامه؟ أنت جعلت من جرح فلسطين غابة زيتون، وجعلت لها حراساً لا ينامون. كلّما استولى الليل على شجرة أنبتّها بكلمة، وكلّما سهت عين حارس أتيت له بلحن غجري. هل تدري كم كبرنا نرتّل أشعارك على ضوء شمعة؟ شمعة تقاوم غزواً أو تفكّ حصاراً. لولاها لتاه عنّا القمر ونسينا درب الأمل وخُنّا رائحة الياسمين.
أمّا الآن وقد رحلت يا محمود وتركت لنا بطاقة هوية وكتاباً وعنواناً وحورية، أما الآن وقد أبت فلسطين إلا أن تؤبّنك حياً، وأن ترفض أنت من بعدها حروف المديح، فلنعترف بموتك لأنك منا وستبقى لنا.