ورد كاسوحة *أخيراً، وبعد طول انتظار، يحلّ «الابن الرهيب للمؤسسة الرحبانية» ضيفاً عزيزاً على دمشق واحتفاليّتها الثقافية المستمرة فصولاً. خبر سارّ ولا شك، غير أن جرعة البهجة التي ينطوي عليها تأتي مشوبة بمرارة السياسة وأعطابها المزمنة.
لا مناص إذاً، والحال كذلك، من الاعتراف بحقيقة مؤلمة يدركها كثير من مريدي زياد وعشّاق نهجه الفنيّ البديل في سوريا، وإن كانوا لا يجرؤون على الجهر بها علناً مخافة التعرّض للمساءلة الأمنية المقيتة (ينبغي الإقرار هنا بانعدام جدوى مساءلات كهذه في الآونة الأخيرة)، وتتمثل هذه الحقيقة في القول الآتي: هل كان على السوريين انتظار الانسحاب العسكري والأمني من لبنان حتى يحظوا بفرصة الاستماع إلى رائد الحداثة الموسيقية اللبنانية وصوتها المدوّي، وهل كتب على هذا الشعب استطراداً أن يدفع من رصيده الخاص فاتورة التجاوزات الخطيرة التي ارتكبها نظامه في لبنان سابقاً؟
ويندرج في الإطار السياسوي الرديء ذاته، وإن من حيّزه اللبناني البحت، موضوع الخلط المقصود والمتكرّر في «إعلام» فريق 14 آذار بين إحياء رموز الفن اللبناني حفلات في سوريا أخيراً وتلميع صورة النظام السوري.
وما يزيد الطين بلّة هو غفلة هذه الجماهير «الغفيرة» عن جذر حركتها الإقصائي والكولونيالي، وانصرافها بدلاً من ذلك إلى ممارسة طقوس «حب الحياة» «التطهرية» (لعلهم يشاهدون الآن ما يمارسه ساكاشفيلي من طقوس تطهير عرقي في أوسيتيا الجنوبية، وهو المحب للحياة مثلهم).
حياة يبدو أن فيروز وزياد الرحباني وشربل روحانا قد نبذوها تماماً وباتوا يتشاركون كرهها مع «حلفائهم الظلاميين» في ولاية الفقيه!
وإذا ما تركنا جانباً الزجليات السياسية اللبنانية «المتوقعة» حيال هذا الحدث وانتقلنا إلى صلب الموضوع، أي إلى معاينة الموقع الذي اختاره زياد الرحباني للياليه الدمشقية فسوف نقع من دون شك على إشارات ودلائل كثيرة، أهمها على الإطلاق هي الانتقاء الموفق لمسرح الحفلات، الكائن في قلب دمشق القديمة، حيث ذلك الخليط الكوزموبوليتي المدهش من البشر على اختلاف انتماءاتهم السياسية والثقافية والعرقية والدينية.
ويبدو أن زياد قد اختار بمعيّة «شلّته السورية» من أصدقاء وموسيقيين أن ينقل معه مزاج ومناخات رأس بيروت والحمرا إلى سوريا، فمن يعرف أجواء دمشق القديمة من باب توما صعوداً إلى القيمرية والجامع الأموي وسوق الحميدية والقلعة يدرك تماماً قدر التماثل بين المنطقتين، والأهمية القصوى التي ترتديها عملية «المماهاة» بينهما، كحيزين وفضاءين ماثلين للاختلاف والتعدد والتنوع المديني والثقافي والعمراني.
وهو أمر يجهله، لسوء الحظ، كثير من اللبنانيين والسوريين الذين ما برحوا يقيمون المتاريس بين بعضهم البعض، ويجعلون من «الحدود المفتوحة» ما بين البلدين خطوط تماس حربية. وحسناً فعلت الأمانة العامة لاحتفالية دمشق حينما صادقت على اختيار زياد لقلعة دمشق مسرحاً لحفلاته بدلاً من دار الأوبرا. ففضلاً عن التكلفة المنخفضة التي يتيحها الوجود في أماكن شعبية ومفتوحة كهذه، هناك قيمة اعتبارية أخرى لهذا الإجراء تتمثل في نزع الطابع الرسمي عن هذه الحفلات، وتقريبها أكثر فأكثر من الذائقة الشعبية ومن الحساسية الجديدة لجمهور هذا الفن البديل والمغاير عن السائد.
وحبذا لو استكمل هذا التوجه العام «باشتراط استبعاد أي وجود رسمي في الحفلات» لا كرهاً بالرسميين طبعاً، ولكن توخياً لتكريس الخيار الشعبي (لا الشعبوي) الذي لطالما نادى به زياد الرحباني في أعماله الإبداعية المختلفة، بحيث تأتي إطلالته الأولى على الشعب السوري منذ ثلاثين عاماً جديرة باسمه ولائقة بانحيازه المستمر إلى الفقراء والكادحين وأبناء البلد.
روى لي أحد الأصدقاء مرّة قصة تكاد تختزل علاقة زياد بسوريا نظاماً وشعباً: فبينما كانت فيروز تعد العدّة قبل سنوات للمضيّ إلى مطار دمشق لتلتحق من هناك بطائرتها الذاهبة إلى دبي نظراً لإغلاق مطار بيروت، حينها كان زياد يبدي رفضاً قاطعاً لموافاتها إلى العاصمة السورية، ومن ثم إلى دبي حيث كان يفترض به القيام بالإشراف الفني والموسيقي على حفلها هناك. هنا تنتهي القصة التي تعود وقائعها إلى حقبة الوصاية السورية السابقة. ويبقى علينا أن نستخلص منها ما يعيننا على فهم طبيعة العلاقة الاستثنائية والمركّبة التي تربط هذا الرجل بسوريا.
* كاتب سوري