ياسين تملالي *«الطريق الذي سلكناه لم يؤدِّ بنا إلى الجنة. يجب علينا أن نعيد النظر في استراتيجيتنا، وخاصة في ميدان الاستثمار الأجنبي». هذا الكلام ليس لأحد قادة المعارضة اللئام، ممن «تحركهم يد الخارج». هو لرئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، حامي حمى الوطنية ووريث «معركة التحرير».
«فشلنا». قال في آخر خطابه، موجّهاً سهام نقده إلى المستثمرين الأجانب، وملمّحاً بالتحديد إلى المصرية «أوراسكوم تيليكوم»: «هناك شركة استثمرت في الجزائر 700 مليون دولار، وبلغت أرباحها في غضون ثلاث سنوات ملياري دولار. لم تفد الجزائر شيئاً من هذه الأرباح. استثمارات من هذا الصنف، لا نريدها ولا نرضاها».
وجاء هذا التصريح في سياق نقاش احتدم في الصحافة عن جدوى الاستثمار الخارجي في مرحلة اكتنزت فيها الخزينة بمئات المليارات، وعن نظرة الشركات الأجنبية المحتقِرة إلى الجزائر كبقرة حلوب تنهل من ضرعها ما دامت فتية في صحة جيدة، وترحل عنها ما إن تقبل عليها سنين أخرى عجاف.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن هذه الشركات حوّلت إلى الخارج في سنة 2007 ما يعادل 7 مليارات دولار هي صافي أرباحها، ولم تستثمر منها داخل البلاد حتى النزر اليسير. وبرأي الباحث الاقتصادي عبد الحق العميري، فإن هذا المبلغ قد يصل إلى 50 مليار دولار في السنوات العشر القادمة إذا لم تتدخل السلطات لإجبارها على استثمار قسم من أرباحها في أكثر قطاعات الاقتصاد حاجة إلى الرساميل.
ولم يكن تصريح بوتفليقة هذا أول إقرار بإخفاق التوجه القائم على إحلال الاستثمارات الخارجية محل الاستثمار العمومي. فقبل أيام من الإدلاء به، تحدث رئيس الحكومة الجديد، أحمد أويحيى، عن واجب تغيير طريقة تعامل السلطات مع أصحاب هذه الاستثمارات. كما سبقه إقرار آخر، ليس أقل شأناً، لوزير «مساهمات الدولة»، عبد الحميد طمار، بفشل مخططات الخصخصة.
وقد ذهب هذا الوزير إلى حدّ تكسير أحد التابوات التي كان هو أحد صانعيها، فتحدث للمرة الأولى عن مساعدة الشركات القومية على تحسين موقعها في السوق، وإن تطلّب ذلك دعمها مالياً. ولم يثنه عن ذلك أنه، بالأمس القريب، كان لا يفوّت فرصة للاستهزاء بكل من «يحنّون إلى الاقتصاد الإداري المسير».
ولا يبدو اعتراف بوتفليقة بفشل سياسته الاقتصادية وليد أزمة ضمير، بقدر ما يبدو جزءاً من «استراتيجية اتصال» جديدة، هدفها إضفاء شيء من الصدقية على الخطاب الرسمي المتهافت. ذلك أن اجترار الحديث عن «مكاسب عهد الرئيس» أصبح غير ذي مفعول على المستوى الشعبي. فالأزمة الاقتصادية لا تزال مستفحلة، والتضخم يهدد معيشة أغلبية الجزائريين، وشبح البطالة يخيّم على مستقبل مئات الآلاف من الشباب الجامعي. وأقل ما يُقال عن هذا الوضع أنه كارثي بالنظر إلى أن خزائن الدولة تحفل بما لم تحلم به أبداً منذ الاستقلال: 200 مليار دولار أودعت في البنوك الأجنبية بدل أن تُستغَلّ في دفع عجلة الاقتصاد وتوفير فرص عمل لملايين البطّالين.
وأحد الأدلة على أن اعتراف بوتفليقة الرنّان كلام خطابي صرف، هدفه استرجاع شيء من صدقيته المفقودة، أنه جاء قبل أسابيع معدودة من تعديل حكومي ثبّت معظم الوزراء (بمن فيهم أولئك المكلّفين بالقطاعات الاقتصادية الحساسة في مناصبهم) بدل إقالتهم ومحاسبتهم على سوء إدارتهم.
الدليل الآخر على ذلك، هو رفض الرئيس تحمّل مسؤولية فشله، وعدم تحلّيه بتلك «الشجاعة الأدبية» التي يطالب بها سواه. «كلنا مسؤولون»، قال. وبالطبع لم يعنِ بكلمة «كلنا» رؤساء حكوماته المتعاقبة ومستشاريه الخفيين ووزراءه الثابتين في مواقعهم، بالرغم من توالي إخفاقاتهم، بل الشعب الجزائري عن بكرة أبيه.
كل الجزائريين، حسب زعمه، مسؤولون عن تعطّل الاقتصاد في مرحلة هو يملك فيها كل مقوّمات الإقلاع.
ولا يجادل أحد في أن بوتفليقة مسؤول شخصياً عن فشل سياسته الاقتصادية، لسبب بسيط هو أن الحكومة، منذ أن اعتلى كرسيّ الرئاسة في 1999، ليست سوى «غرفة تسجيل» لتوجيهاته وتوجيهات مستشاريه المقرّبين. كما أنه بذل جهوداً مضنية للتحكّم بكل مؤسسات الرقابة على عملها، فحوّل البرلمان إلى منتدى لأصدقائه، ونصّب على رأس «المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي» شخصية باهتة لا تجرؤ على انتقاده.
كل هذا علاوة على أنّ كل القوانين الليبرالية التي ينتقدها اليوم جرى التصويت عليها في عهده وبدفع منه. من عدّل قانون الاستثمار وأعطى المستثمرين الأجانب حق تحويل أرباحهم إلى الخارج دون حسيب أو رقيب؟ بوتفليقة في 2001، ضارباً عرض الحائط بتحذيرات الأحزاب اليسارية والليبراليين المعتدلين وحتى أرباب العمل الخائفين من سطو الأجانب على مصادر ثروتهم. ومن عدّل قانون الخصخصة؟ بوتفليقة في السنة ذاتها، بالرغم من تحذير النقابيين من تحوّل الخصخصة إلى عملية تكسير مقنّع للاقتصاد العمومي. ومن تصدى بالسخرية للمطالبين باستثمار احتياطي الصرف في القطاع الاقتصادي بدل إيداعه في الخارج بفوائد هزيلة لا تتعدى 1،5 في المئة؟ فخامة الرئيس. ومتى أهديت سوق الاتصالات الجزائرية على طبق من ذهب إلى «أوراسكوم تيليكوم» بعد منع «الجزائرية للاتصالات» من توسيع شبكتها للهاتف المحمول؟ في عهد فخامة الرئيس.
فسّر «المتنكّتون» اعتراف بوتفليقة بفشل سياسة «تشجيع الاستثمار الأجنبي» قائلين إنه، بعد أن أدخل كل المؤسسات، السياسية منها والمدنية، بيت الطاعة، لم يعد له من وسيلة للتسلّي غير السطو على خطاب المعارضة وتبنّيه، على منوال «أنا أولى من غيري بانتقاد نفسي، فأنا أدرى بها». قد تكون النكتة مضحكة، إلا أن التدقيق في خطاب الرئيس الأخير يدعو إلى البكاء أكثر مما يدعو إلى الضحك: أيعقل ألا تكون نتيجته المنطقية تخلّيه عن مشروع الترشح لعهدة رئاسية ثالثة؟ ولماذا يستمر متملّقوه في دعوته إلى تمديد فترة حكمه بعد أن أقرّ بفشل سياسته الذريع؟
* كاتب وصحافي جزائري